شعار قسم مدونات

مَنِ الله؟

blogs - sunset

"بدلاً من أن أصِل إلى الإنسان عن طريق الله، وصلتُ إلى اللهِ عن طريقِ الإنسان"

– د. عبد الوهاب المسيري.

شدّ ما أخذني سؤالي حول الكلّيات، وأكبر الكلّيات كانت عندي ماهية هذه الحياةِ وأصلها.. بكلماتٍ أكثر تحديداً: مَنْ الإله؟ أو قبل ذاك: ما هي فكرة الإله؟

 

كانت الأسئلة حينها قاصرةً؛ لذا لم تكن الإجابات كاملة، ولكن في غمرةِ البحثِ وجدتُ سراجين لا يزال نورهما في نفسي إلى الآن، فأضاء كل منهما لي الطريقَ الذي وقفت في منتصفِه حائراً، كان الأول ذلك الذي بحث عن الإنسان حتى وجد خالقه، وكان الثاني صاحبَ الطريقِ الثالث بين السماءِ والأرضِ.. الراحل/ بيغوفيتش.

 

أخضعت حينها الأمر كلّه لصالح العقل، فلم تخاطب أسئلتي إلا العقل، ثم أيقظني بيغوفيتش، وأفهمني المسيري شيئاً، ونفذ أحد للمرةٍ الأولى إلى تلك التي من أمرِ ربّي.. إلى الروح.

أمتعتني كثيراً رشاقةُ المسيري في رحلته الباحثة التي بدأها من الإنسان، ذلك المخلوق المُركّب الذي اختزلته المادية فاختزلت السؤال عنه، وضاقت عن فهمه فضاقت عن فهم صانعه، بدأ المسيري من هنا: الإنسان ذو الثنائية المتفاعلة من المادةِ والروح، فوصل إلى اللهِ الذي لا يؤمن به إلا من آمن بالروح.

 

ثم جذبتني ثنائيات بيغوفيتش بين داروين ومايكل أنجلو، أو العلم والفن، وبين الثقافة والحضارة، وأخيراً بين الدراما والطوبيا وتركيبية الأولى وسطحية الثانية.

 

كثيراً ما شغلتني -كما أسلفت- فكرة إثبات الإله، وكيف لهذه الفكرة الغيبية أن تتوافق مع العلم المادي، وكيف يمكن إثبات كذا أو كذا -مما حدّثنا به الدين- عن طريقِ العلمِ بشكلٍ جامد وملموس. كان السؤال هُنا أحادي النظرة: العلم والمادة، وفقط. كان السؤال خاطئاً من الأساس. أخضعت حينها الأمر كلّه لصالح العقل، فلم تخاطب أسئلتي إلا العقل، ثم أيقظني بيغوفيتش، وأفهمني المسيري شيئاً، ونفذ أحد للمرةٍ الأولى إلى تلك التي من أمرِ ربّي.. إلى الروح.

 

يقول المسيري إنّ الإنسان كائنٌ ثنائي الفِطرة لا يُمكن إغفال جانبه الروحي لصالح نزعته المادية، ولا يصحّ أن تطغى روحانيتُه على وجوده المادي في الحياة. وشأنه في ذلك شأن الحياة التي هي أسمى من الفكر، كما أعلن بيغوفيتش. وعلى هذا فهو يحتاج لما يعبّر عن فِطرته الروحية الجوانية كما تعبّر الطبيعة عن نزعته المادية البرّانية.

 

لذا قال إنه ينبغي للإنسان من تجاوزٍ يتخطّى به عالمه الأرضي/التحتي لما هو سماوي/فوقي بصورةٍ تحقق له الاكتفاء المعنوي وكذلك الاكتفاء المادي الذي يحققه العلم. هذا الاكتفاء المعنوي لا يتحقّق إلا عن طريق الدين الذي يضع إجاباتٍ عن الأسئلة الغيبية التي لا يرقى لها العلم. وإن إنساناً يرفض هذا لهو إنسان يفقد إنسانيته طواعيةً ويختزل نفسه في صورةٍ فيزيائية كباقي الجمادات أحادية الصِبغة، فكيف تسأل العلم سؤالاً لا يملك أدواته، وتُنكر الدينَ الذي يُخبرك من لدن فوقي/مُفارقٍ/مُحيط عن الغيب الذي تنشغل بالسؤالِ عنه؟! العلم يقول لك الطريقة وأنت تسأل عن الغاية، فكيف تسأل من لا يُسأل إلا بـ"كيف"؟ وتقول له: لماذا؟

 

ما وراء الفيزياء/الميتافيزيقيا.. بيغوفيتش تحدّث في ذلك.. عن الروحانيات التي لا تسبر أغوارها الطبيعة ولا يفهمها العلم كما يفهم الملموسات.. عن الفنّ.. الثقافة.. عن الدراما والتداخل الإنساني. قال إن الإنسان لا يكون إنساناً إلا من هنا، أي أنّه يحتاج -لكي يكون إنساناً- أن يتجاوز العلم المادي إلى الفن الروحي ليتّزن الجانبان.. أن يتجاوز الحضارة المادية التي هي أثر الإنسان على الأرض إلى الثقافة الروحية التي هي أثر الإله عليه، فتتحقق ذاته المُركّبة.. وأن يتجاوز تلك الطوبيا الآلية التي تضع البشريةَ في قوالب مُصمتة إلى الدراما الإنسانية التي تحفظ لكلٍّ تميّزه الإنساني وفرديته بعيداً عن ميكانيكا الآلات الصامتة.

 

هنا توقّف عندي كلّ شيء، توقفت الأسئلة الوجودية الساذجة التي تسأل عن الأسباب الأحادية/المادية الصِرفة.. الأسئلة التي لم تتجاوز ولم تنتبه يوماً أن ثمّة جانباً في النفسِ كان يحتاج الاهتمام، ذلك الجانب الذي لولاه لما كُنت الإنسان ثنائي القطب الذي وصفه بيغوفيتش ووصل عن طريقِه المسيري إلى الله.

لن أتوغّل كثيراً في الأمر ومدى إقناع تلك الفلسفة للبعض من عدمه، فإليكم الرجلين وما كتباه فهو يُغني عن التعليق وقد قالا فلم يتركا، ولكنّي أودُّ الحديثَ هنا عن نفسي وعن تجربتي مع الإيمان.. تجربتي مع الإله.. مع اللهِ الذي آمنتُ به وعرّفنيه الإسلام.

 

الله الذي رأيته يوم أن رأى قلبي، وحُجِب عنّي حينما كنتُ جاحداً يطغى عقلُه على كلّ شيء.

 

تسألني مَن الله؟ اللهُ يا صديقي هو الله الذي لا اهتداء إلا به، فتراه بغير عيْنٍ وتقربه دون حِراك. إن أفردت في السؤالِ عنه عقلَك شقيت لعجزِك عن الإحاطة، وإن شاطرته في السيرِ قلبَك وجدته في كل حين

أذكر ذلك الرجل الذي حكى عذابه الطويل حين سأله زميلٌ في العناء: هل ما زلت تؤمن بالله؟ فأجابه: "نعم، لأني بكلّ بساطة لن أستطيع -بمفردي- تحمّل كل ذاك". نعم.. هنا الجانب الخفي الذي لا يفسره نيوتن ولا دارون.. الجانب الذي يظهر فيه عجزك عن كلّ شيء، فتبحث عن اللهِ في نفسِك لتُكمل السير، ولو بحثت في المادة لأخبرتك أن الحياة في شقاءٍ لا تستحق المثابرة.

 

أعلمت لِمَ كان الانتحارُ مُحرّماً؟ أعلمت لِمَ قال يعقوب لبنيه "إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"؟! إليكم التاريخُ فاذهبوا وانظروا أي الفريقين استمرّت دعوته على كلِّ هذه الصِعاب: فريق الإيمان، أم فريق الإنكار؟ ثم اسألوا أنفسكم: لِمَ تحمّل أُناسٌ كلّ هذا البلاء الذي لا نفع منه بمفاهيم الدنيا؟ فتجدوا أنّه لم يكن ذاك إلا لحقيقةٍ تجاوزا الدنيا إليها فأخضعوها إليهم ولم يخضعوا لها.

 

تسألني مَن الله؟ اللهُ يا صديقي هو الله الذي لا اهتداء إلا به، فتراه بغير عيْنٍ وتقربه دون حِراك. إن أفردت في السؤالِ عنه عقلَك شقيت لعجزِك عن الإحاطة، وإن شاطرته في السيرِ قلبَك وجدته في كل حين، فتراه في خفيِّ اللطِف، وفي سكون الأمن بعد الخوف.. بآلائه إذا دققت، وتهتدي للسّرِّ إذا أحببت، تراه بالذي في صدّرِك ينبِضُ بين قبضٍ وبسط، وإن أحياه فيك رأيت وما جادلت، فإذا فقهت إلى افتقارِك طلبت لقلبِك الرضا، كما تطلب لعقلِك البلوغ، فكِساءُ عقلِك القلب، وأنت أقل من بلوغِ الفضاءِ بساقين عاريتين يا مسكين!

 

مَن الله؟! هو الذي أعطاك القيمة حين أخبرك أنّه ربّك ولم يُفنِك في العدم، وكرّمك حين حرّرك من الموجودات وهيّأك للواجد. هو السيّد الذي ينتهي إليه السؤددُ فلا ينبغي لغيرِه أن يكون معه، و"لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا".

 

اللهُ الذي عرفته وعبدته وآمنتُ به هو الذي أخرجني من ضيقِ الأرض إلى رحابِه، ومن عجزِ عقلي إلى قُدرةِ قلبي، ومن ضلالِ السؤالِ إلى اهتداءِ الوحيّ، الله الذي لا يكتملُ الطريق إلا إليه، ولا يكون الصبرُ على الدنيا إلا لكون آخرته خيراً وأبقى.

 

مَنْ الله؟! اللهُ هو الذي قبل كل شيء، فإن لم ترَه فلست على شيء، وإن طلبته ففيك كل شيء، أنت صنيعته التي صوّرها على هيئتِه، فإن لم تُبصره في قلبِك وروحِك فلن تراه في قولِ دارون ولا طلاسم الفيزياء.

 

مَن الله؟! هو الذي ملك عليَّ روحي وخاطري فامتلأ عقلي وباطني، فهو السلامُ الذي منه السلام، فتبارك ذو الجلال والإكرام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.