شعار قسم مدونات

على مائدة الفن الممتهن

blogs - حفل غناء
بات الفن يحمل بين ثناياه معاني جديدة غير تلك التي كان ينبض بها أيام "الزمان الجميل" لتتلوث سماؤه بأدخنة السيجار المشتعل على طاولات القمار والاستغلال، ولترتحل من نصاعتها ونقائها إلى سوداوية فارغة المضمون تشوبها ألف شائبة وشائبة بأبعد ما يكون عن معاني الفن الراقية.

وحين الحديث عن الفن، بمجمله واختلاف الألوان التي كللته طيلة عقود، فألبسته لباساً يمزج الفرح والمرح لينتقل بالناس من حياة الشقاء إلى جو من السعادة والهناء، فإن الحديث سيخرج عن كونه فناً مختَلَفاً عليه أصلاً بين اجتهادات وآراء يكاد الغوص فيها من جديد مدخلاً في سرداب مظلم لا آخر له، ولا بد أن نكون قد تجاوزنا تلك المرحلة فيما مضى فليست محل استعراض ههنا ولا مراء فالفن يبقى وسيلةً للفرح والترويح وجنةً تستريح تحت ظلالها النفوس إذا ما لامس الفطرة وحرّك في دواخل الإنسان إنسانيته ما بقيت لم تتجرع شراب الخبث ولم تتلوث بضوضاء الصاخبين المارقين البائعين إنسانيتهم على موائد القمار.

وإذا ما انطلقنا في حديثنا عن الفن الحديث حيث باتت فيه المرأة سلعة وبات فيه المال هو الفيصل والأساس، فإن الاستغلال والتشويه هما سمات للحالة المهترئة المتردية التي وصل إليها ما يسمى بالفن في بلاد العرب التي يموت فيها كل جميل ويُقبر فيها الفن الأصيل ليس أفضل حالاً من أرواح باتت تزهق صباح مساء، بل وأضحت محطّ ابتزاز واستثمار تحت غطاء الفن المتأرجح بين لا إنسانية واهية وكلمات منمّقة تطفو على سطح فن مزخرف بالعري والانحدار!

كان الفن فيما مضى أما الآن فبات من الصعب بمكان تحديد ما إذا كانت بعض الإنتاجات والبرامج التقليدية المسروقة والمقلّدة حتى بأدقّ تفاصيلها بسلبياتها وإيجابياتها تصنّف ضمن إطاره.

لقد بات يكفيك اليوم سريرٌ وفتاة وكاميرا لتكوّن مُنتَجاً يحصد من الشهرة ومن النجومية ما يكفي لكي يدوس على الذوق وعلى الكرامة وعلى الأخلاق وأعراض الأمة دونما رقيب أو حسيب فتلك بضاعة رخيصة وتجارة سهلة تدّر من الربح الكثير.

يكفيك اليوم راقصة أو فتاة متبرجة أو غانية "مشهورة" يحدّثك جسدها عن أهليتها لدخول كل منزل وكل بيت لم يعد يرى في الصوت "الناعم" الجميل ما يكفيه ليسدّ ما يعتريه من سعار الشهوة تلك التي لم تغب عن بال أولئك القائمين على عشرات ومئات الفضائيات التي باتت تنتشر كالنار في الهشيم، وباتت تروّج لبرامجها بشعارات زائفة تستغل فيها سذاجةً باتت تتأصل وبكل أسف في طبيعة العقل العربي الباحث عن الفرح، فلا يكاد يجده إلا هناك، وهذا – ما يدّعيه العامة – فأصبحت المجتمعات ترفع شعار الميكافيلية فغاية الفرح أضحت فوق كل اعتبار ودونما حدود!

منذ متى والفرح لا يتحقق إلا عند أقدام عاهرة أو على منصة لا يعتليها إلا المنحدرون في قاع الفوضى الموحلة، المتسلقون أبواب الفن زوراً وبهتاناً، عند مَن أضاعوا رمزية الفن وجعلوه شذر مذر ومزّقوا الأمة فوق ضياعها وانحدارها.

لم يكن الاستغلال تحت مسمى الفن وليد برنامج عابر هنا ولا مساحة ضيقة أو واسعة على فضائية من فضائيات الغث السمان، إنما كانت فكرة إبداعية في عالم النصب والاحتيال حققت نجاحاً باهراً لمّا رأت في جسد المرأة بشكل أساسي سلعةً لها رواجها، ولاقت من جيوب اللاهثين وراء المرأة ووراء الترفيه المكذوب مكاناً مناسباً لترويج بضاعتهم التي تملأ الآفاق، فانتقلت نقلات نوعية متقدمة بعد أن أدخلت الشعارات البرّاقة الملامسة لأحاسيس الناس في سباق هيمنتها وهرولتها لاستغلال ما يمكن استغلاله فباتت فلسطين قضية لها زبائنها وشعار يستجلبه العراة من كل خُلق وذوق للتغطية على سوءاتهم ومشاريعهم وامتدت امتداد الجرح العربي النازف فلحق اليمن بفلسطين وما بينهما من الشعارات ما بات مُستَهلَكاً بشكل يهين قضايانا على موائد المستثمرين العابثين بالمشاعر والأحاسيس، لتنهب من الجيوب أكثر مما نهبت سابقاً ، ولتجرّ إلى حبائلها المجتمع بمؤسساته وكل مكوناته فما أبقت أحداً وما تركت منزلاً لم يحظَ بعض أهله أو جلّهم بذلك الداء.

لقد كان الفن فيما مضى أما الآن فبات من الصعب بمكان تحديد ما إذا كانت بعض الإنتاجات والبرامج التقليدية المسروقة والمقلّدة حتى بأدقّ تفاصيلها بسلبياتها وإيجابياتها تصنّف ضمن إطاره، سيما وأنها لا تقدّم جديداً غير تلك الأموال المنهوبة من جيوب الفقراء البسطاء، فالمستفيد أولاً وآخراً هم أنفسهم الذين يعتلون قوائم المجلات العالمية في الثراء والغنى الفاحش فيما يزداد الفقير فقراً ليس بماله وحسب بل في قيمة الفن التي كانت تعطيه في يوم من الأيام لون آخر لحياته البائسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.