شعار قسم مدونات

لماذا لا يستقيلون مِثل "لورو"؟

blogs - le roux
ربّما كان لافتاً ومثيراً لاستغراب ودهشة كثير من المتابعين للمشهد السياسي في بلاد "الأنوار"، أن يُقدِم وزير الداخلية الفرنسي "برونو لورو" (Bruno Le Roux)، بحر الأسبوع الحالي، على إعلان استقالته من منصبه، بعد يوم واحدٍ فقط على وُرود اسمه في ملف توظيف مشبوه لابنتيْه القاصرتيْن كمساعدتيْن له، حينما كان نائباً في الجمعية العامة الفرنسية (البرلمان)؛ وهو الملف الذي أُثيرَ نقاش حادّ بشأنه في فرنسا على إثر تقرير في برنامج تلفزيوني ساخر بثّته قناة «TMC» الفرنسية.

استقالة وزير الداخلية الفرنسي "لورو" بقدر ما تطرح عديدَ علامات الاستفهام حول توقيتها "الحسّاس" وبخصوص سياقها السياسي باعتباره منتمياً للحزب الاشتراكي الفرنسي، شهراً واحداً فقط على إجراء الدور الأول من السباق الرئاسي الحاسم نحو قصر الإيليزيه؛ بقدر ما تثير سؤالاً متجدداً في الأوساط السياسية حول الحكامة والشفافية في تدبير الشأن العام للمواطنين، بعيداً عن إعمال "الشطط في استعمال السلطة"، و"استغلال مراكز القرار والنفوذ من أجل تحقيق مصالح ذاتية".

في هذا الصدد، لا بأس من إقامة مقارَنة بسيطة بين مسؤولي الدول الديمقراطية ومسؤولي باقي الدول التي ما زالت تعيش مخاض "الانتقال الديمقراطي"، أو "دول العالم الثالث" كما اشتُهرت. مقارنةٌ ستنصبُّ على رصد سلوك وردّة فعل المسؤولين، من الصنفيْن المذكورين، بعد اندلاع قضايا مشبوهة في مواجهتهم تخصّ كيفية تدبيرهم للمال العام، أو بعد تورطّهم الصريح في حالات فساد إداري وسياسي بصفة عامة.

إنّ قياس درجة تشبُّع مجتمع معين بالقيم الديمقراطية، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية، لا يمكن أن يستقيم في ظلّ غياب تامّ لتنزيل مبدأ "الإفلات من العقاب".

السياسيون في الدول الديمقراطية، التي تحترم نفسَها قبل مواطنيها، لا يجدون غضاضة أو أدنى حرج في إعلانهم وتحريرهم لاستقالاتهم من مسؤولياتهم ومناصبهم، بمُجرّد الكشف عن تورُّطهم في قضايا عامة أو خاصة، تفوح منها رائحة الشطط في توظيف السلطة الممنوحة لهم بموجب القانون أو بعد ارتباط أسمائهم بحالات سوء تدبيرهم للمال العمومي.. وعلى الرغم من كون "المتّهم بريئاً إلى أن تثبُت إدانته"، كما تقول بذلك القاعدة القانونية المعروفة؛ إلاّ أن المناخ الديمقراطي ومنسوب الحرية المرتفع بتلك البلدان لا يمنع النيابة العامة من فتح تحقيق قضائي للتثبُّت من حقيقة ما نُسب إلى الشخصية السياسية من تُهم ثقيلة، قد تذهبُ عقوبتها إلى السجن المؤبد في بعض الحالات.

في المقابل، وفي حالة الدول التي ما زالت تصارع قصد الالتحاق بـ"نادي الديمقراطيات العريقة"، أو تلك التي تسير بخُطى بطيئة نحو ذلك، فإن الأمر يختلفُ تماماً عن ما ذكرناه أعلاه؛ فلا السلطة القضائية ولا سلطة وسائل الإعلام ولا منظمات المجتمع المدني تستطيع رفع أو تحريك دعاوى عمومية بخصوص حالات الفساد الإداري والسياسي المنتشرة بقوّة في عديد المجالات. أما في أكثر الحالات تفاؤلاً، وإذا ما حدَثَ ووَصلتْ إحدى تلك القضايا إلى ردهات المحاكم و وَقعتْ ملفاتها الحارقة بين أيدي القضاة، فإن مصيرها يكون هو التأجيل بغرض طيّ الملف وطمس القضية، وكثيرةٌ هي الوسائل المستخدَمة من أجل ذلك، ليست الاتصالات الهاتفية وممارسة شتّى الضغوط سوى أبرزها.

أما انتظار إعلان استقالة أو إقالة المسؤول المتّهم بالتورط في قضايا شأن عام ضدّه، فهو لا تعدو أن يكون ضرباً من "أحلام اليقظة"، أو انتظاراً لشفاء مريضٍ لا يُرْجى شفاؤه.. إنّ قياس درجة تشبُّع مجتمع معين بالقيم الديمقراطية، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية، لا يمكن أن يستقيم في ظلّ غياب تامّ لتنزيل مبدأ "الإفلات من العقاب" وعدم إعمال قاعدة "المسؤولية مقابل الحساب".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.