شعار قسم مدونات

وطن برسم الموت

blogs - Aleppo
في وطني يوزع الموت مجاناً! فلا داعي أن تشترك في مسابقة الحرب لتفوز به، يكفي أن تذهب وتشتري رغيف خبزٍ لأبنائك حتى تعود إليهم بقايا إنسان يحتضن بيديه المبتورتين رغيفاً عُجن بدمه! أو أن تكون طالباً تعبر الطريق إلى جامعتك وإذ برصاصة تودي بك فتعبر طريقك إلى جنة خالقك،  أو تكونين امرأة مسنة تستقلين حافلة تعج بالركاب لاستكمال أوراق التقاعد ودفن عناء ثلاثين عاماً؛ فإذا بهم يقررون إحالة كل من في الحافلة إلى التقاعد عن مزاولة الحياة وإن دفنوا فذلك ترف بحد ذاته! 


أن يشاهدوه خلف شاشات الهاتف المحمول أهون ألف مرة من أن يشاهدوه خلف قضبان السجون، أو أن يزجّ به في إحدى الاشتباكات التي لا تفضّ إلا حين يخسر الطرفان!

أو عروساً خدعوها بعودة الأمان إلى مدينتها وقررت أن تقضي بعضاً من شهر عسلها مع عائلتها فتقف عند نافذة غرفتها تحكي لزوجها الغريب عن طفولتها التي استودعتها في زواياها وتتغزل بالسماء التي ما رأت بحسنها حتى تتلقى منها هديتها گرصاصة تستقر في قلبها! قلبها المذنب بعشق وطنه وبغض غربته. خانت برد المنفى بدفء الوطن المزيف الذي ما كان إلا من لظى الحرب و كان جثمانها وقوده؛ فأمطرتها هديتها على طبقٍ من كفن، كان أبيضا كقلبها، وفستان عرسها!

تلك الرصاصة أطلقها رجل ثمل متعفّن القلب لأنه خسر في لعبة ورق مع رفاقه السكارى، وأي ويلٍ ذاك الذي سيجرونه على أهل المدينة من تبعات خلافهم الوضيع؟ وكم من جثمان سيدفع ثمن لعبتهم القذرة تلك؟ وكم من أم ستسدد فاتورة هزيمته بأن تقضي بقية عمرها مكلومةً ثكلى؛ فهذه أم العروس أولهم، شيعت ابنتها التي أظنها تمنت سراً أن تُدفن في الوطن وها هو القدر أهداها ما تمنت.

في وطني عليك أن تحكي لأطفالك قصصاً عن حب الحياة والأمل بالمستقبل وما إن يغفون تلتحف كفنك دون أن تشعرهم بذلك! عليك أن تضحك جهراً وتبكي سراً. في وطني مجبرٌ أنت أن تودع أهلك حتى وإن نويت أن تتمشى في حديقة بيتك، في وطني حدث مالم يخطر على قلب بشر! فهو گالجنة كان ولكنهم حولوه جهنماً تحرق من مات ومن لم يمت! في وطني لا تعرف من يكيد لك والكل يكيد للوطن، في وطني توزّع الإعانات وتُسلب الحريات كأنهم يطعمونك لتصمت.

فيه نشأ جيلٌ يُرسى لحاله، قتلوا الطفولة فيه فما من طفل إلا وتراه يصنع من أغصان الشجر بارودة للعب معذور هو؛ فهذه باتت لعبة الكبار والصغار، بعد أن كانت براءة الطفولة تختصر بأرجوحة تعلق على تلك الأغصان، وطلاب المدارس يصبغ ملامحهم الاكتئاب وإن كتبوا عبارة على كتبهم لكانت "تباً للحياة"، أي جيلٍ هذا الذي اغتيل أجمل ما فيه؟!

عروس خدعوها بعودة الأمان إلى مدينتها؛ فتعود، تقف عند نافذة غرفتها تحكي لزوجها الغريب عن طفولتها التي استودعتها في زواياها وتتغزل بالسماء التي ما رأت بحسنها حتى تتلقى منها هديتها رصاصة تستقر في قلبها!

وشباب الجامعات تحلم بالهجرة هرباً من مكيدة تحاك لهم في كواليس حاجز قد يقودهم إليه قدرهم، يودعهم الأهل فرحاً وحزناً، فالاغتراب خيرٌ من الاعتقال، أن يشاهدوه خلف شاشات الهاتف المحمول أهون ألف مرة من أن يشاهدوه خلف قضبان السجون، أو أن يزجّ به في إحدى الاشتباكات التي لا تفضّ إلا حين يخسر الطرفان، ونخسر الوطن فيعود إليهم على الأكتاف محمولا.

في وطني يبس النظر من ندرة اللون الأخضر، فالغابات أحرقت واستحالت أرضاً سوداء، وإن عثر على عود يابس قطعوه؛ فالدفء أهم من بذخ المشاهدة! لابأس فما عاد للنزهات في نفوس من بقي هناك مكان. في وطني أصبح الشعب رومانسياً بالإكراه! اعتاد على الأضواء الخافتة ونسي الكهرباء فقد باتت مدرجةً ضمن قائمة الأحلام.

في وطني تعرف معنى الموت آلاف المرات؛ ففي كل يوم يموت فيك ومنك شيء. في وطني يرتجف من الشوق من بقي فيه، ومن غادره كلهم يشتاقون ليوم يُبعث فيه الوطن حياً وتُبعث فيهم الروح من جديد، في وطني كل يوم شهيد ولا أثر للعيد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.