شعار قسم مدونات

بين تنمية المكان والزمان والإنسان

بناء

يُحكى أن أحدهم، وقد كان مسؤولاً رفيع المُستوى، وحين وجه له أهل الصحافة سؤالاً عن إذا ما كان هُناك وجوداً للتنمية في خطط حُكومته الحالية والمُستقبلية؛ فأجابهم بأن ذاك الشارع المُنمق والطويل الذي دُشن مُنذ أشهر في البلاد، وتلك العمارة المُزخرفة التي تجمع عدة مبانٍ حكومية، والانتشار التقني في بلاده؛ كل ذلك وغيره هو نتاج للخطط التنموية التي تبنتها وتتبناها حكومته!

التنمية، ذاك المُصطلح الذي اجتاح العالم كمؤشرٍ على نماء الدول وازدهارها رغم كثرة الاختلافات المفاهيمية التي انتابته بين جموع السياسيين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع. تُشير التنمية، وفي أبسط صورها، إلى تلك العمليات البنائية والنمائية المُستمرة والشاملة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، في دولة ما، بهدف وصول أفرادها، وبالتالي مُجتمعها بأسره، إلى الرفاة الاجتماعي، والاستقرار السياسي والاقتصادي، بآلياتٍ ووسائل يتحسسون من خلالها نتيجة هذه العمليات.

الاستثمار بالإنسان هو عنصرٍ أساسي في تحقيق تنميةً شاملةً تنعكس على كافة أطياف المُجتمع. وعلى ما يبدو، فإن ملامح التنمية الموجودة والمُتعارف عليها في العديد من بلادنا العربية، مُختلفة عن تلك التي تُجمع عليها مفاهيم التنمية!

ولإصدار حُكمٍ على دولةٍ بأنها تنموية؛ فهناك عدة مؤشرات يجب أن تنطبق عليها، كمؤشر الحريات داخلها، ومعيار الاستقرار السياسي والاقتصادي، وعلاقة الديموقراطية بالتنمية، وعدالة التوزيع الاجتماعي، والتنظيم في رسم ملامح الدولة، وتوازن توزيع مراكز القوى بها، وصور تعاطيها مع ديناميكيات الاقتصاد السياسي، وقُدرتها على إدارة المال العام، ومدى اهتمام صانعي سياساتها العامة بمؤشرات التنمية، وتظافر جهود القطاعين العام والخاص بديمومة مواكبة التحديثات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل الدولة وخارجها، وغيرها الكثير من المؤشرات.

والأهم من ذلك، الاستثمار بالإنسان كعنصرٍ أساسي في تحقيق تنميةً شاملةً تنعكس على كافة أطياف المُجتمع. وعلى ما يبدو، فإن ملامح التنمية الموجودة والمُتعارف عليها في العديد من بلادنا العربية، مُختلفة عن تلك التي تُجمع عليها مفاهيم التنمية! فلا عجب أن يخرج مسؤولاً ليُشير إلى تواكب البناء العمراني وتطوره بأنه نتاج تنمية، دون إدراك منه بأن تزايد التعداد السُكاني، وتنوع أذواق السُكان والمُستهلكين؛ يدفعهم نحو التطور والبناء العمراني. أو أن تُدرج العديد من الحُكومات العربية إصلاح الطرق العامة، وشق الشوارع الكبرى، وبناء التجمعات التسويقية وغيرها، تحت عنوان " خطط تنموية مُستقبلية "، دون التعرض إلى العُنصر والمكون الأساسي لعملية التنمية نفسها.

والأصل في الخطط التنموية الحُكومية أن تعم وتشمل جميع أرجاء البلاد، لا أن تتركز في نقطةٍ أو مدينةٍ مُعينة يُراد منها أن تحمل الطابع الحضاري والتنموي للدولة، والصورة المُشرقة لها، بما يجعلها تختلف اختلافاً كبيراً عن باقِى أرجاء البلاد، حتى وإن زارها أهل البلاد أنفسهم شعروا بفوارق الاختلاف الكبير على كافة الأصعدة، وهو ما قد تُلاحظه في الكثير من البلاد العربية، بحيث يتم التركيز على العواصم دون سواها، مع أن الوطن واحد، والتراب واحد، والتنمية أيضاً واحدة، لا تُفرق في مفاهيمها وآليات تنفيذها بين العاصمة وغيرها. هذا وإن أصر المفهوم العربي للتنمية على تنمية المكان والزمان بعيداً عن الإنسان، علماً بأن التنمية تحتاج إلى ثقافةٍ مُجتمعيةٍ تُدرك أهمية تبنيها، وحتمية المحافظة على تواجدها المُستمر، وضرورة مُساندة المُجتمع بمُختلف أطيافه للخطط الحُكومية التنموية.

إن تنمية المكان والزمان، دون تنمية الإنسان، لا يضعنا مع تلك الدول التي أدركت وتُدرك بأن محور وركيزة التنمية الأساسية هي الإنسان، كونه العُنصر الأقدر على ديمومة التنمية واستمراريتها في المُجتمع، عبر تراتبية نقل المعرفة والتخطيط والتطوير للأجيال بشكلٍ مُستمر. فلا يمكن اعتبار تطور المكان، وتوافقه مادياً فقط مع الزمان بأنه تنمية، لأن من يحمل ثقل التنمية الحقيقية هو الإنسان، وهو ما يجب أن تتبناه الحُكومات العربية في خططها التنموية المُستقبلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.