شعار قسم مدونات

الرافضون لسايكس بيكو هم حراسه الحقيقيون

blogs - arab

كان قَدَرُ هذه الأمة أن يتنازع السيطرة على مقدراتها، إما قادة قبليون -أو ما يعرف بحكم العوائل المالكة- وإما قادة عسكريون مستبدون، بل حتى أن قادة مدنيين تسلموا المواقع الأولى في بلدانهم ما لبثوا أن منحوا لأنفسهم الرتبة العسكرية الأعلى للتفرد بالقرار، وفرض سلطاتهم على المؤسسة العسكرية التي ظلّت تشكل الخطر الأكبر على بقاء الأنظمة، خاصة في النصف الثاني من القرن الماضي الذي شهد انقلابات عسكرية في معظم البلدان خارج إطار البلدان التي تحكمها العوائل المالكة التي ترتبط باتفاقيات حماية من قوى غربية فاعلة، ما يدفع باتجاه القول أن الانقلابات العسكرية ما كان لها أن تنجح إن لم تكن برعاية وتدبير من دولة غربية، أو أكثر.

في العهد المنعوت بالحقبة القومية في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان الخطاب السائد خطابا ناقما من اتفاقية سايكس بيكو، بل إن مناهج التدريس تكاد تلقي بمصائب الأمة وتفرقها وضعفها، على تلك الاتفاقية، وينسحب ذات الخطاب على أنظمة العوائل المالكة التي هي الأخرى تضع في مناهجها ما يؤكد ضلوع اتفاقية سايكس بيكو بدور ما في تخلف الأمة وتراجع دورها الريادي.

لا نبتعد كثيرا عن عقلية المؤامرة، التي تهيمن على تفكير النخبة من الأمة قبل عامتها، إذا قلنا إن العبث الغربي في رسم مستقبلنا، وخلق واقعنا، لم يكن فعلا عبثيا، ولم يكن ليُكتب له النجاح دون أن يجد الأدوات الوظيفية العاملة من أبناء الأمة لإنجاز الفعل، لذا من السذاجة القول بتلك النظرية، طالما أن أدوات التنفيذ ليست غربية، بل هي عربية غلّبت مصالح الغرب على مصالح الأمة في مقابل حماية الأنظمة من جهة، والحفاظ على الحدود الجغرافية القائمة من جهة ثانية، وهي جغرافية الحدود المرسومة التي يرتبط الحفاظ عليها ارتباطا جدليا ببقاء الأنظمة، أو بعبارة أخرى، يرتبط بقاء الأنظمة ارتباطا جدليا بالحفاظ على جغرافيات سايكس بيكو.

يجادل دعاة الرفض لحدود سايكس بيكو بالقول، إن الذين رسموا لنا هذه الحدود وفق تقسيمات تخدم مصالحهم، تعمدوا الإبقاء على بؤر صراعات كامنة يفجرونها ساعةَ يرون أنها تخدم مصالحهم.

ظلت القوى المندرجة تحت توصيف القوى الشعبية، قوى هامشية ينحصر دورها في إدارة مصالح الأنظمة حتى ظهور ثورات الربيع العربي، ولا نجانب الصواب إذا أسرفنا في تبني الفكرة القائلة: إنّ القوى الشعبية العربية هي من همّشت دورها حين ارتضت لنفسها أن تكون حجرا في بنيان الأنظمة، بدلا من أن تكون معولا لهدمها لتستحق بجدارة أن تكون حجرا في بناء الأمة لا في بناء الأنظمة.

وقد يكون من المفيد القول، إن هذه القوى لم تكن لترتضي لنفسها هذا الدور لولا أنها وقعت ضحية عوامل عدة، من بينها الثقة غير المسوّغة بتلقي ما يمليه على وعيها الخطاب التضليلي للمرتبطين بالأنظمة من مفكرين وصنّاع رأي وعلماء دين دون تمحيص، أو فهم لحقيقة وواقع ارتباط هؤلاء بالحاكم باعتباره القائد الملهم، أو ولي الأمر المتوجب عليهم طاعته كأمر شرعي، سواء الحاكم المنتمي إلى العوائل المالكة، أو الآخر المنتمي إلى الطبقة العسكرية المستبدة، يضافُ إلى ذلك عملية بناء وعي أحادي الجانب من خلال المناهج التعليمية التي يُنتدب لوضعها مَن هم أهل لثقة الأنظمة، لا مَن هم أهل لها لكفاءتهم العلمية، كما يُفترض.

إن غياب الدور الحقيقي للقوى الشعبية، أتاح للحاكم ميزة تكريس ثنائية بقاء النظام والحفاظ على حدود سايكس بيكو، ما يعني غياب مشروع الأمة في دائرته الصغرى -أي الدائرة العربية- في تحشيد القوى والطاقات تحت سقف واحد قادر على الانعتاق من قيود خدمة مصالح الآخرين -الغرب وأدواته التنفيذية- وتجسيد الرفض الكامن في العقل الجمعي للحدود القائمة وحراسها، طالما أيقنت القوى الشعبية أن هذه الحدود لا تخدم الأمة ومصالحها على المديين القريب والبعيد، ومع وجود هذا اليقين، إلا أن الفعل لم يكن باتجاه رفض الحدود المرسومة، إنما باتجاه تكريس واقعها.

ظل التغني بالوحدة العربية طيلة عقود مجرد شعار أدمنته القوى الشعبية من خلاصة ما تسوّقه النخب إلى مخزونها الثقافي المتنامي، في وقت سجلت فيه تلك القوى عجزا عن إدراك واقع أن تحقيق الوحدة العربية، لا يعني أكثر من تحطيم حدود سايكس بيكو ولا أقل منه، ومع هذا، برزت تيارات تسير في الاتجاه المضاد تحت شعارات قطرية متشبثة بحدود سايكس بيكو، مثل لبنان أولاً، أو الأردن أولاً، لكن واقعها يشير إلى أنها تيارات ضعيفة ليست ذات أثر.

تعتز البلدان عادة بما يسمى الاستقلال، في الوقت الذي ظل هذا الاستقلال في إطار التبعية للقوى العظمى برمزيته المتمثلة بالحاكم، وتُعد الحدود المرسومة الصفة الأكثر دلالة على استقلال البلدان ضمن حدود معترف بها، وفق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، هذا من الجانب الرسمي التنظيمي، أما من جانبه الآخر، فيرتبط الاستقلال -في الحالة العربية- بحدود جغرافية متفق عليها بين الدول المتحادة، وتتم ممارسة السلطات السيادية لهذا البلد العربي أو ذاك، ضمن حدودها المرسومة وفق سايكس بيكو.

هل التعايش بين قوميات أو طوائف متصارعة هو خيار هذه القوميات والطوائف؟ أم هو في حقيقته خيار القوى المتنفذة وأدواتها الفاعلة في بلداننا؟

مع الرفض العام لحدود سايكس بيكو، وهو رفض متمترس في الوعي الجمعي تلقائياً، إلا أن حدود هذا الرفض لا تخرج عن دائرة التنظير، بل إن دعاة رفض سايكس بيكو، هم الأكثر تشبثا ودفاعا عنها من خلال رفضهم الحاد لأية دعوات لإعادة رسم خارطة البلدان على أسس جديدة غير تلك التي وضعها سايكس وبيكو، ولا يمكن إعادة رسم تلك الخارطة إلا بتقسيم البلد إلى بلدان عدة، أو دمج بلدان عدة في بلد واحد، وفي الحالتين، هو تمرد ورفض عملي لحدود سايكس بيكو، ومع تعذر واستحالة دمج بلدان عدة في بلد واحد، يبقى تقسيم البلدان إلى بلدان عدة هو الأكثر واقعية.

يجادل دعاة الرفض لحدود سايكس بيكو بالقول، إن الذين رسموا لنا هذه الحدود وفق تقسيمات تخدم مصالحهم، تعمدوا الإبقاء على بؤر صراعات كامنة يفجرونها ساعةَ يرون أنها تخدم مصالحهم، أو تعمّدوا فرض تعايش قسري على مكونات الأمة القومية والطائفية، كفرض التعايش القسري على العراقيين العرب والأكراد في جغرافية واحدة لا تخلو من صراعات كامنة على أسس قومية، فيما أرغموا السُنة والشيعة على التعايش القسري مع وجود صراعات كامنة على أسس طائفية.

إن فرض التعايش القسري بين قوميتين، أو طائفتين، أو أكثر، دفع باتجاه التمحور حول الهويات الفرعية وتغليبها على الهوية الوطنية الجامعة، ما جعل صورة بلد كهذا يحوز نسيجا مجتمعيا مفككا، وهو يتناقض مع أسس بناء الدول وبقائها، لكن الدعوات إلى فك الاشتباك بين المكونات الطائفية والقومية تندرج في إطار الدعوات المعادية لمصلحة تلك الشعوب أو المجتمعات، كما يروج الرافضون لسايكس بيكو في إطار الرفض التنظيري، في الوقت الذي يصح القول فيهم، إنهم الحراس الحقيقيون لحدود سايكس بيكو.

إن من أبرز نتائج فرض التعايش القسري، زيادة حدة الصراعات سنة بعد أخرى، وفي كل الأحوال يغيب السؤال الكبير، هل التعايش بين قوميات أو طوائف متصارعة هو خيار هذه القوميات والطوائف؟ أم هو في حقيقته خيار القوى المتنفذة وأدواتها الفاعلة في بلداننا؟ الوقائع التاريخية تشير إلى أنه خيار القوى المتنفذة وأدواتها الفاعلة، وبالتالي هو ليس خيار شعوبنا ومجتمعاتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.