شعار قسم مدونات

عنهن.. أكملُ حديث الطريق

blogs - يد زوج
كنتُ قد أنهيت تدوينتي السابقة "معها.. حديثٌ في الطريق"، وقد مضت رفيقتي في السفر إلى حال سبيلها بعد أن تركتني أمضي، وقد حيرتني حكايتها وأثارت أفكاري وتساؤلاتي، كنت أسترجع حديثها وأنا غيرُ مصدقة أنه بعد موجات التحرر الواسعة التي عمّت المجتمع في آخر خمس سنواتٍ منذ قيام ثورات الربيع العربي -كما يطلقون عليها- لا تزال هناك بعض الفتيات اللائي يتزوجنّ هروبا من سلطة الأهل، وأنه ما زال هناك مفهوم "الخاطب المثالي" الذي يسيطر على عقول بعض الأسر، وترتكب باسمه أكبر الجرائم المجتمعية من إجبار الفتيات على بدء الحياة مع رجل ليس بينها وبينه الحد الأدنى من التوافق أو الاتفاق أو حتى الألفة، بل ربما لا ترى منه إلا ما يريبها؛ وذلك لمجرد أنه مثالي من وجهة نظر الأهل؛ فتتأزم الحياة، وتستحيل العشرة إلى معارك شرسة؛ أو قهرٍ صامت؛ وهنا يأتي السقوط..

فما هو ذلك الزوج المثالي من وجهة نظر بعض الأهل؟! أهو الرجل ذو المكانة المرتفعة والمال الوفير؟ فقط!
ما زال بعض الأهل لا يدركون أن المثالية المرغوبة في زوج الابنة لا بد من الاتفاق عليها فيما بينهم وبين بناتهم.. إن الخاطب المثالي هو الرجل الذي ترتضيه الابنة ويقر الأهل على خلقه ودينه وكفاءته لتحمل مسؤوليات الحياة؛ هو الرجل الذي سيشعر الأهل بالاطمئنان على ابنتهم معه حتى ولو كان يعاني من بعض ضيق الحال في بداية الطريق، طالما هي قد ارتضت به على حاله ذاك.

ما زال المال والمنصب يخدعنا رغم أننا نرى كل يوم في ساحات القضاء ما نعاني منه بسبب تلك الاختيارات المتسرعة، مما رفع نسبة الطلاق في مصر إلى 40% بمعدل حالة طلاق كل 6 دقائق حسب آخر إحصائيات معلنة عن عام 2015.

الغريب أن هناك فئة من الأهل أصبحت تفكر في تزويج الفتاة لأجل التزويج فقط؛ لكأنها هي دورة الحياة بدون أي تفكير، وهذا منطق خطير؛ نحن نزوج بناتنا لا لكي نتخلص من مسؤوليتنا تجاههن، ونلقي بها على عاتق رجل آخر؛ ونهرب بهن من شبح العنوسة بالفوز بصفة زوجة بأي شكل؛ بل لكي نصنع من نجاحنا الأُسري نجاحا آخر، بأن نساعد تلك الفتاة على أن تكون زوجةً صالحة وأما فاضلة؛ تنشئ أسرة جديدة مستقرة تنفع المجتمع؛ يقول أنتوني براندت: "أمور كثيرة قد تغيرنا، لكننا نبدأ وننتهي بعائلة". ويقول رينغ لاردنر: "العائلة التي أتيت منها ليست بأهمية العائلة التي ستؤسسها".

علينا ألا نلهث وراء التخلص من مسؤولية الفتاة؛ بالزج بها في قفص زواج هي لا تريده؛ فنحن بحاجة دوما إلى ثباتٍ وتروِّ في تقرير مصير بناتنا، وبحاجة إلى تفهمٍ وصبر لمساعدتهن في اختيار شريك الحياة.

وهنا لا بد أن ندرك جيدا أن المخاطرة في قرار الزواج أو التزويج من شأنه أن يسبب كثيرا من المآسي التي نسمع عنها؛ بدءا من الاكتئاب ومرورا بالخيانة، ووصولا إلى الطلاق والقتل والإدمان.
أنا أعلم جيدا أنه في تلك الأيام الصعبة ذات الظروف الاقتصادية الكاسدة وتزايد أعداد الفتيات الآتي في سن الزواج مع خوف العنوسة وقلة فرص العمل أمام الشباب؛ قد تجعل أسرا كثيرة تسرع في قبول أي متقدم للخطبة، وتتساهل كثيرا لأجل إتمام الأمر، وهذا محمود؛ ولكن لا بد أن تكون هناك ضوابط؛ إذ لا بد أن يكون ذلك التساهل في المادة وليس من أجلها.. فلا نتساهل في السؤال وتحري الدقة ومراعاة التوافق، ونزوّج الفتاة من رجل لا تتفق معه لأجل الظروف الكاسدة؛ بل نيسر التكاليف على الخاطبين لكي نزوّج الفتاة من الرجل الصالح بعد التأكد من جديته.
 

وهنا يجب التنويه لشيء هام؛ أن تيسير التكاليف على المتقدم للخطبة لا بد أن يكون مقرونا بالاجتهاد في تحمل مسؤوليات الزواج من جانب الخاطب؛ ولا بد أن نفرق جيدا بين تقديم التسهيلات وبين تقديم التنازلات، وهو فرق السماء والأرض بين الكلمتين، وما أكثرَ ما انهار من الزيجات بسبب عدم التفرقة بينهما؛ فالتيسيرات تعني التغاضي عن الكماليات والمظاهر والمستحدثات مما لا تتوقف الحياة بدونها؛ لكن التنازلات تكون بالتغاضى عن أساسيات تكوين الأسرة السليمة؛ وأولها مدى أهلية الخاطب وصلاحه لتكوين أسرة، وتحمل مسؤوليتها إنسانيا وماديا. ويتمثل ذلك في الدين والخلق وجدية هذا الخاطب في السعي والاجتهاد وحفظ الحقوق والواجبات.

كل ما سبق لا بد أن يكون مقرونا بمناقشاتٍ ودودة وموضوعية مع الابنة؛ إذ كيف نعزلها عن المشاركة في التفكير من أجل اختيار شكل حياتها المقبلة، وهي التي ستصبح زوجة وأما مسؤولة؟!

أيها الأهل! عليكم الانتباه لآراء بناتكن جيدا؛ فتلك الفتاة هي التي ستعيش التجربة وحدها؛ وبعد الزواج لن يبقى أحدُ سواها؛ والكل سيقول لها الكلمة الشهيرة "تكيفي واعتادي الأمر"، فلا بد أن ندرك جيدا أيّة مسؤولية نريدها أن تعيشها؟ أيّة حياة؟

علينا ألا نلهث وراء التخلص من مسؤولية الفتاة؛ بالزج بها في قفص زواج هي لا تريده؛ فنحن في تلك الأوقات والظروف؛ بحاجة دوما إلى ثباتٍ وتروِّ في تقرير مصير بناتنا، وبحاجة إلى تفهمٍ وصبر لمساعدتهن في اختيار وقبول الشريك المناسب للحياة، الأمر ليس مجرد تخلص من المسؤولية أو خوفاً من العنوسة، بل هي حياةٌ أخرى سوف تنبنى وتَعمُر وتضيف للإنسانية، أو سوف تستحيل جحيماً وتنهدم وتقضي على من فيها ومن حولها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.