شعار قسم مدونات

مَعها.. حديثُ فى الطريقِ

walkers
قرابة العاشرة صباحا كنا ننتظر أن تتحرك الحافلة المتوجهة إلى القاهرة، وبينما كنت منشغلةً أحملُ همّ الوقت الذي سيستغرقه الطريق إذا بشابة جميلة تقترب ناحيتى، كانت بهية الطلة، تملك وجهاً يطل كوجه شمس الصباح الطازجة، وشعرا بنيا بدا مذهبا تحت أشعتها، وعينين عسلييتين بدتا على أروع ما يكون من الجمال في ضوء الشمس، بابتسامة ودودة ألقت التحية ثم جلست بجانبى، كنت قد سمعت كثيرا عن الأياد البيضاء للسفر ولكن للمرة الأولى أخبرُ المعنى بهذا الشكل، فما أعظمَ أن يمنَ عليكَ الطريقُ برفيقٍ تظل تتذكره طيلة عمرك.

أنست لجمالها وتحيتها الودودة لعلّي أجد في رفقتها ما يؤنسني طوال الطريق، وقد كان! تجاذبنا أطراف الحديث، وعلمتُ بأنها تقطن نفس مدينتي و تعمل في إحدى شركات البرمجة الكبرى في القاهرة، تشعب الحديث، والتقينا في الأفكار كثيرا ثم في سلاسةٍ تسللت كل منّا إلى عمق الأخرى وتحدثنا كما لو كنا صديقتين حميمتين تقابلا بالصدفة في القطار بعد زمن فراق طويل، كانت مدهشة، تملك نضجاً يفوق سنوات عمرها الستة والعشرين، تتحدثُ إلىّ وأنا أرى روحها روح امرأةٍ كبيرةٍ قد خَبرت الحياة جيدا.

تقول "جين كير" عن الطلاق: "الطلاق يشبه إنسانا صدمته سيارة كبيرة، فإذا لم يمت من شدة الصدمة فسيكون شديد الحذر وكثير التلفتِ يمينا وشمالا عند عبور أي طريق".

كانت كلماتها موجزة والجمل محددة : "كونى جريئةً في اقتناص السعادة، ولكن بالطرق الصحيحة". يا الله !..ماهذا النضج الكبير، نعم هو الألم الذي يصنع كل ذلك بالروح الطيبة والنفس الحرة والقلب النظيف، وجدتنى أمام فتاة قد خبرت من الألم ما يفوق عمرها، عانت مما عانت منه أخريات كثيرات، لكن المِحَن لم تُفسدها كما أفسدت الكثيرات منهنّ. فتاة من أسرة طيبة تتحمل مسؤولية الوالد المريض في سن صغيرة حتى يُتوفى فيُسرع الأهل في تزويجها وهي ما زالت في السابعةَ عشرَة من عمرها من رجل يكبرها بخمسة عشر عاما؛ رغبة في إلقاء حبل مسؤوليتها على عاتق رجل آخر يرونه "العريس المثالي".

ثم تضطر لقبول الزواج هروبا من ضغط الأهل بعد أن باءت كل محاولات الرفض بالفشل، وبعد أسبوعٍ واحد تبدأ الحقيقةُ في التكشف، فالزوج رجل فاسد يقيم العلاقات مع السيدات الكبار طمعا في أموالهن، فتطلبُ الطلاقَ سريعا وتُواجَه بمعارضةٍ شرسة من الأهل مع وصمٍ لها بالكذب والجنون، تقولُ لي: "سمعتُ كثيرا من الأذى من فتيات وسيدات العائلة ممن تشفين بي لكنني تحملت أذى الجميع، وأنا أعلم أن سيظهر الله حقيقتي ذات يوم"،وقد كان.

طُلِقت واستكملت الدراسة باجتهاد حتى تخرجت بتقدير امتياز، وبدأت تواجه الحياة كمطلقة، وهي لم تكمل عامها الواحد والعشرين بعد، تواجه الانتقادات، وتتجاهل اللائمين، وتحتك بالطامعين الذين يظنونها ضعيفةً بحاجة إلى الاهتمام، لم يعلموا بأن الألم يمنح الاستغناء ويُرغِب في الزهد، فانصبت على عملها نهارا، وفي الليل كلُ الوقت لوالدتها، وفي العطلات الأسبوعية تلتقي بالصديقات، تقول "جين كير" عن الطلاق: "الطلاق يشبه إنسانا صدمته سيارة كبيرة، فإذا لم يمت من شدة الصدمة فسيكون شديد الحذر وكثير التلفتِ يمينا وشمالا عند عبور أي طريق".

ثم قالتها لي بثقةٍ متزنة: " كل من أخطأ بحقي عاد واعتذر لي، كل من قلل من شأني أصبح الآن يعود إلىّ يستشيرنى في حل مشكلاته"، أصبحت الشابة الصغيرة تقسم وقتها ما بين العمل وعائلتها، لم يغيرها الظلم عليهم، بل صبرت حتى آثرها الله عليهم جميعا ثم ها هي تنزل لعملها المرموق في القاهرة، وتأتي لكي تؤنسني في الطريق وتبهرني بقوة شخصيتها وخروجها من كل تلك المِحن بكل هذا الرقي.

قالت لي: " كنت صغيرةً وكنت أعتني بأبي المريض"، لعل عنايتها به وبأهلها جعلتها موضع عناية الله وتعهده، فنجاها من حيث يسقط الناس، طوى حديثنا الطريق طياً ولم نشعر به، حتى أتت محطة النزول وهبطنا معاً.

الكثير منا ينقم على من سببوا له الألم يوما، قليلٌ فقط هم من يترفعون ويتسامحون، قليل هم من لا يفكرون في الثأر بعد العذاب الطويل؛ لذلك فإن أكثر ما يبهرك فيها هو ذلك الاتزان النفسي الذي وصلت إليه بعد صراعات مريرة، إذ لم تنحرف ولم تكن تنهار ولم تنتقم، بالتأكيد تعذبت ..لكن العذابَ أضاف إليها، قال نابليون يوما: "أمنع الحصون المرأة الصالحة"، وقد دكها نقدُ المجتمع حولها دكا، لكنها ظلت صامدة، أكتب عنها تكريما لكل أولئك اللاتي صنعهنّ الألم ولم يزددن معه إلا إيجابيةً وثباتاً.

بهرني في حكايتها أنني لمست فيها ثلاثَة مستوياتٍ للتعاملِ مع الأزمات: أولها الصمود وقت الأزمة، ثم التسامح والعفو عن من تسبب لها في ذلك، ثم الإحسان، وذلك باستمرار برّها بأهلها معنويًّا وماديًّا، تماما كما تقول الآية: "والكاظمين الغيظَ والعافينَ عن الناس والله يحبُ المحسنين". وقد كانت أزمةٌ واحدةٌ كهذه كفيلة بأن تعرضَ أي فتاة أخرى غيرها للانهيار أو للإدمان والسقوط. أو حتى للنقمة على الأهل والمجتمع، والسعي للثأر منهم والتمرد عليهم بالخوض في الانفلات على أوسع نطاق، لكن تلك الفتاة لم تفعل، رغم كل ما عانته من الاكتئاب والألم . حاولت أن أستشف من حديثها سببا لذلك الاستقرار النفسىي، لكن لم أكن بحاجة إلى الكثير من البحث، فقد تضمن حديثها الإجابة وإن كانت متخفية.

نعم، فتلك الفتاة لديها إحساس عميق بالمسؤولية ناحية أسرتها، فكانت تَبرُّ أباها في مرضه، لعله ساعةً قد دعا لها حينما ناولته الدواء أو سقته شربة ماء، لعل الله نظر إليها ساعةً وهي تجفف عرق جبينه أو تساعده في النهوض أو القعود أو وهي تطعمه أو تحكم تدفئته بالغطاء في برد الشتاء، فقد قالت لي: " كنت صغيرةً وكنت أعتني بأبي المريض"، لعل عنايتها به وبأهلها جعلتها موضع عناية الله وتعهده، فنجاها من حيث يسقط الناس، طوى حديثنا الطريق طياً ولم نشعر به، حتى أتت محطة النزول وهبطنا معاً، تصافحنا بحرارة وتبادلنا الأرقام على وعد بالتواصل، وكدت أمشي في طريقي لكننى وجدتها مصرةً على أن تنتظرنى حتى أستقل التاكسي وتطمئن علي. وتم لها مرادها، استقللتُ التاكسي ولوحتُ لها بعد أن قامت هي بتسجيل رقم السيارة، ثم مضيت بعيدا وقد أثارت في نفسي حكايتها أفكارا كثيرة…"يُتبع"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.