شعار قسم مدونات

سوسيولوجيا الحياة.. حب أم احتياج؟

blogs - كرتون يمسك قلب
منذ نشأتنا في الحياة تولد بداخلنا قيم وعلاقات إنسانية واجتماعية، وقلب صغير يريد أن يمتلك العالم من لحظة استيقاظ أعيننا على الدنيا إلى لحظة النضوج والإدراك للفرد والمجتمع، وحتى تنتهي قصتنا في الحياة تنمو معنا مفاهيم ومعان كثيرة، لكننا مازلنا ننخدع ويبقى السبب مجهول الهوية. فقد تخدعنا أحداث ومواقف تجعلنا نصدر حكما مسبقا دون وجود دليل أو نترك قلوبنا فريسة لمن لا يقدر قيمتها، فتتوقف عن الخفقان أو تبقى متصلة بأجهزة النبض الإلكترونية فنعيش جسدا بلا روح.

ولكن هل سألنا أنفسنا لماذا؟! الإجابة تكمن فى إدراكنا للعيش وتجاهلنا حقيقة التعايش، فنحن جميعا نعيش لأننا نستيقظ من نومنا ونتحرك ونعمل، ولكن حقيقة التعايش هي أن نبني علاقات اجتماعية ناجحة، وأن يبقى لنا دور في المجتمع وكيان متأصل داخل أذهان الآخرين، وقيم إنسانية ترفض المعاني الزائفة، وتثبت قيمة الحياة داخل جوهر الروح، ولكي نتعايش علينا أن نجتاز اختبارات الحياة بما فيها من دروس لا يحصرها أي علم.

كثير منا يعرف ما هو الحب، ولكننا قد نختلف في منازل الحب، فهناك حب روحاني، وهو حب الله عز وجل ينمو حينما نترك أنفسنا فيه لخالقها، فنطمئن للأقدار حتى وإن كانت تسير ضد ما ترغبه النفس، وهذه الدرجة من الحب لا يعادلها أي شيء ولا يستطيع أن يقف في طريقها أي عائق، والدرجة الثانية هي حب الأبوين وهي الغريزة الفطرية المستنبطة من أعظم الخالقين، أما الدرجة الثالثة من الحب وهي الحب الرومانسي العاطفي الذي يجمع به الله قلبين في حدود الشرع، لتتم به سنة الزواج، وهذا هو محور الاختلافات والتناقضات.

لا شك أننا جميعا نحتاج إلى المادة، ولكن يجب علينا أن نتحكم في أنفسنا فلا نجعل احتياجنا لهذه المغريات يسيطر على قيمنا وأخلاقنا، ويجعلنا ننساق وراءها فنعليها.

حينما نحب تبهرنا سحر الكلمات وجمال النغمات واحتياجنا للاحتواء والرغبة الغريزية لدينا تجاه الجنس الآخر، فننجذب ونميل ونترك شلالا من المشاعر المتدفقة التي لا نستطيع السيطرة عليها دون أن نفهم طبيعة الطريق الذي نسير فيه، وقد نصطدم بعقبات تقضي على هذا الشعور الرائع الذي طالما بحثنا عنه داخل الحياة، والذي يحتاج منا إلى عناية خاصة، واهتمام ومشاركة بين روحين وقلب واحد يربط شرايين الحياة بينهما، لكننا قد ننخدع حينما نتجاهل حقيقة العلاقة ونكتشف أننا أخطأنا في تقديراتنا للأمور، فتظل أنفسنا في حالة تمزق، ويغمر قلوبنا حزن على ما افتقدناه، والواقع أننا نكتشف بعد ذلك خطأنا وأننا لم نكن ندرك المعنى الحقيقي للحب، ولم نسير العقل مع المشاعر في تناغم ينظم مسيرتنا في الحياة، فشتان بين الحب والاحتياج، فالحب هو أسمى المشاعر الكونية خلقه الله لترقى به الأجناس البشرية ويكتمل به بناء المجتمع ليخلو من النفاق والرياء والأنانية والرغبات الحيوانية وتتأصل فيه التضحية والإخلاص والإحساس بوجود كيان آخر يقطن هذا العالم المعتم داخل الجسد وينبض به القلب ويرضى به الله، فهو قائم على الرحمة والمغفرة قبل أن يقوم على الانجذاب.

أما الاحتياج هو استجابة النفس للرغبة الملحة للحصول على الشيء باستخدام نظرية السيطرة والاستحواذ فقط، أي أن هذا الشيء ملك لي دون أن نعطيه قيمته أو نعلي قيمتنا، فالطفل مثلا يريد اللعبة ويظل يبكي من أجلها حتى يحصل عليها، ولأنه لا يدرك قيمتها ولا يدرك كيف حصل عليها يكون غير مكترث وغير مهتم بها، فيفسدها لأنه لا يعلم كم المعاناة التي عاناها والداه ليدبرا الأموال لشرائها، كما أنه لا يدرك أهميتها بالنسبة له، وهل ستكون رفيقته أم سيتخلى عنها أم ستتخلى عنه.

حينما نجد هذا الحب نجد روعة الحياة ونضوج الفكر والعقل وعلاج القلب داخل هذه الرحلة الصغيرة، فالمنهج هو دنيا ودين، والحياة هي عقل وحب.

كذلك نحن نريد الحب والاحتواء لنشبع به أنفسنا، وحينما نجد الشخص الذي يلبي لنا رغباتنا نتعلق به ونسعى إليه حتى نحصل عليه، وقد نكون بنينا اعتبارات خاطئة عن الشخص الذي نريد منه أن يكون شريكا لنا في الحياة ونكتشف أنه لا يستحق هذا الحب والتضحية فنتركه، ونبحث من جديد عمن يشاركنا هذا الشعور الجذاب.

وهذا يرجع إلى قوانين المادة والتعلق بها، والتي جعلت منا أشخاصا لديهم نقص في الوعي والإدراك للقوانين الربانية، فالمادة هي الكون الذي يحيط بنا، والحياة التي نعيشها بما تحملة من مغريات كالثروة والشهرة وغيرها من أسباب سعينا في هذه الحياة، ولا شك أننا جميعا نحتاج إليها، ولكن يجب علينا أن نتحكم في أنفسنا فلا نجعل احتياجنا لهذه المغريات يسيطر على قيمنا وأخلاقنا، ويجعلنا ننساق وراءها فنعليها وندني من أنفسنا وأخلاقنا واتباعنا لمنهج الله الذي ينظم لنا مسيرة الحياة دون أن نأخذ في الاعتبار، قائد هذه المسيرة الكونية ومدبر الأمور وخالق الكون كله، فنصبح في شقاء دائم، استجابة لأهوائنا، فالاحتياج للمال مثلا قد يجعل من ضعاف النفس من يسرق ويكذب ويقبل رشوة، والاحتياج للشهرة قد يجعل من ضعفاء النفس من يقبل النفاق والمتاجرة بعقول البسطاء والانحياز لأصحاب المصالح من أجلها.

إن ما أريد توضيحه أننا لا بد أن نعالج أنفسنا قبل أن نسير في دائرة الحياة فنجعل قلوبنا وعقولنا وتعلقنا بمنهج الله هو من يسير لنا الطريق ويفتح لنا أبواب السعادة، وأن الله لم يخلقنا عبثا، فقد قال في حديثه القدسي: "يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تلعب وقسمت لك رزقك فلا تتعب فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محمودا، وإن أنت لم ترض بما قسمته لك فبعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحوش في البرية ثم لا تنال منها إلا ما قسمته لك، يا ابن آدم خلقت السماوات والأرض، ولم أعي بخلقهن أيعييني لقمة عيش أسوقها لك، يا ابن آدم أنا لك محب فبحقي عليك كن لي محبا".

حينما نجد هذا الحب نجد روعة الحياة ونضوج الفكر والعقل وعلاج القلب داخل هذه الرحلة الصغيرة، فالمنهج هو دنيا ودين، والحياة هي عقل وحب ومنهج يجعل من الاحتياج سببا للسعي في طريق الخير قبل أن يكون رغبة للوصول للهدف بأي طريقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.