شعار قسم مدونات

الآخر

blogs - فيدباك
اهتمامنا بما حولنا هو اهتمام دائم لا انقطاع له، فنحن لا نفتأ نتأمل كل ما حولنا ونصيغ اهتمامنا هذا في صورة أسئلة قد نجد لها إجابة أحياناً ولا نجد لها إجابة أحياناً كثيرة، أسئلة تكاد تؤكد في طبيعتها أن الذي يسأل غريبا عن هذا المكان ولا يفقه عنه شيئاً إلا أنه وجد نفسه فيه من دون حول له ولا قوة.

إن ما حولنا من موجودات -على الرغم مما تشكله من أهمية لنا- يبدو قليل الأهمية أمام اهتمامنا ببعضنا بعضا أمام اهتمام أحدنا بالآخر، فنحن لا نكف نطرح الأسئلة بداخلنا عمن هم حولنا من أشخاص، فنفكر ونحلل ونخمن ثم نبدأ بعملية التصنيفات على أساس استنتاجات وضعناها وكأننا قد نفذنا إلى عقول وقلوب الأشخاص المحيطين بنا، وبالرغم من هذه التصنيفات إلا أننا نستمر في عملية التفكير والتخمين، إن أحدنا يود لو يفلق رأس الآخر وينفذ إليه ليعرف ما يفكر فيه، ليعرف عن حياته، ليعرف كل شيء يدور في ذهنه، ولكن هذا الإنسان الذي يستمر بطرح التساؤلات ويتفنن في صياغتها هو نفسه الذي عجز عن صياغة السؤال الأهم، لماذا يستمر كل منا بطرح الأسئلة عن الآخر وافتراض الإجابات، إن هناك من يقضون نصف وقتهم أثناء الحديث يتأملون ملامح وانفعالات الشخص المقابل ويحاولون عبثاً أن يتوصلوا إلى ما يفكر فيه علهم يجدون سبباً لكره، أو علهم يجدون سبباً ليطرحوا مزيداً من الأسئلة حوله!

إن الوقت الذي نقضيه في محاولة النفاذ لعقول الآخرين، وتلك الانفعالات الكثيرة التي نستنفذها أثناء التفكير في الآخرين، كفيلة بأن تصنع معجزات إذا ما جيّرت في الاتجاه الصحيح، فقط إذا جيّرت في التفكير في كل ما حولنا، عدا التفكير في بعضنا البعض! لو استغرق كل منا هذا الوقت في التفكير في ذاته وتطويرها دون النظر إلى الآخرين لما سبقنا أحد ولكان مجتمعنا من صفوة المجتمعات البشرية.

إن رواية البؤساء التي تصيبنا بهستيريا من الضحك لمجرد سماع اسمها لتشكل أفضل مثال على طريقة التفكير التي تسيطر على مجتمعنا، إنها تحكي قصصا لضحايا صنعها المجتمع وعاقبها المجتمع، إن حكاية الشابة "فانتين" التي أخطأت ثم تابت لم تسلم من نبش المجتمع البائس في ماضيها وأخطائها ومعاقبتها، والأب مادلين الذي تاب إلى خالقه وجيّر حياته لخدمة الناس واعتقد أنه سلم – وفقاً لاعتقاده- من عقاب الله، ولكنه لم يسلم من عقاب ذاك المجتمع البائس، إنني أحسست صدقاً أثناء قراءتي للرواية أنني أقرأ عن مجتمعنا، إننا نعيش دون مجاملة في مجتمع بائس! إن هذه الصورة تثبت أننا متخلفون على الأقل مائتي عام عن ركب الحضارة البشرية!

تعمدنا ترك كل ما ينظم الحياة، أن ننسى نظاماً كاملاً أعلم منا بأنفسنا، قررنا أن تجاهله دونما سبب أو مبرر، إنه النظام الإلهي.

إننا نحاول أن نكون مجتمعاً متقدماً ومتطوراً عن طريق استيراد أفخم السيارات ولباس الماركات والتطاول في المباني وبناء الأبراج، إن المشكلة التي نعاني منها ليست في نقص الإمكانات ولا في نقص السيادة، إن الخراف لا يكون لها راعٍ لو لم تكن خرافاً، إن مشكلتنا في طريقة التفكير العقيمة، في ذاك الجهد الفكري الجبار الذي نبذله دون أن ننظر في مدى الفائدة التي ستعود علينا من هذا التفكير، إن المشكلة في ثقافة مجتمع كامل.

إنني لأشعر بالاشمئزاز كلما أذكر أن شخصاً ما شعر بالزهو والمجد لمجرد أنه تعمد أن يؤذي شخصاً آخر لمجرد أنه اعتقد شيئاً ما أو استنتج شيئاً ما من ساعات التفكير الطويلة التي قضاها في التفكير فيه! أي إنجاز ذاك؟! إنني أشعر بالأسف كلما تذكرت تلك المظاهرة الحماسية التي انطلقت تحمل الرايات وتطلق الهتافات لتحيي فريق كرة قدم لا يمت لهم بصلة عرقية أو دينية!

إننا لسنا مجهلون، ولسنا مضطهدون، إننا مجتمع بائس ومخبأ بئسنا عقولنا، وأساس علتنا أنفسنا، فلنكف عن إلقاء اللوم على المؤامرات الخارجية والداخلية وأنظمة الحكم، لقد قمنا بثورات على أنظمة صنعناها بثقافتنا وبتفكيرنا، لقد ثرنا في الواقع على نتائج ولم نقم بالثورة على أسباب، فأنظمة الحكم لم تأت من كوكب آخر.

لقد تعمدنا أن نترك كل ما ينظم الحياة، أن ننسى نظاماً كاملاً أعلم منا بأنفسنا، لقد قررنا أن نتجاهله دونما سبب أو مبرر، قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))، إنه النظام الإلهي الذي لا يخطئ وما ينبغي له، النظام الإلهي الذي تحدى على مدى قرون أن يؤتى بمثله، أو أن يوجد فيه خطأ، وحتى في هذا السياق مازلنا نخطئ وننتظر من نظام الحكم أن يكون إسلامياً، وأفضل مقولة لضبط هذا التفكير هو مقولة العلامة الألباني "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقوم لكم على أرضكم"، إن المجتمع هو الذي يحدد طبيعة الأنظمة وليس شيء آخر يا سادة.

لقد آن الأوان أن نتهم أنفسنا بكل شجاعة، أن نسلط أنظارنا على منبع الداء، أن نعالج الأسباب لا أن نعاقب النتائج، أن ينشغل كل منا في نفسه وفي إصلاح عيوبه، فلكل منا في نفسه ما يغنيه وما يشغله عن الآخر، وخير ما أختم به هذا المقال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.