شعار قسم مدونات

مُشاكسون ولكن

blogs-teacher

صدف أن قرأت في الأيام السابقة أكثر من منشور على الفيسبوك لأمهات يطلبن المشورة بخصوص انزعاج المدرسين والمدرسات من "مشاكسة" أولادهن في المدرسة.

 

 ذكرَت إحداهنّ كم أن ابنها حنون ويهتم بمن حوله، لكنه وعلى حد قولها يختلق مشاكل كثيرة مما يثير حفيظة الجميع فيبدؤون بالشكوى منه.

 

تذكرت نفسي فوراً، لأنني كنت طفلة مشاكسة، لا بل أنا التي أطلق عليها المعلمون لقب "مشاغبة بجدارة" طوال سنوات دراستي.

 

نشأت في مدرسة قوية جداً، تتبع نظاماً صارماً، كنت ذكية بشكل عام، ومتفوقة في بعض المواد وأهمها اللغة العربية، أذكر أنني خلال سنتي في الصف السابع تحديداً كان أستاذ العربي يختارني كل أسبوع لألقي موضوع التعبير الذي أكتبه أمام زميلاتي في الصف.

 

 كنت أنتظر هذه الحصة بفارغ الصبر وكنت أعتبرها أجمل حصة بالنسبة لي حيث أنني أحب الكتابة أولاً، وأحب إلقاء ما كتبته ثانياً، والأهم من هذا، أن السعادة كانت تغمرني لتقدير مدرّس العربي لكتاباتي.

 

الحق يقال، تأسست تأسيسا أكاديمياً ممتازاً بفضل تلك المدرسة، المشكلة الأساسية وأنا أتحدّث عن المشكلة بنظر المدارس والمدرسين في ذلك الحين أنني كنت مشاكسة.

 

كنت محامي دفاع عن الصف وعن باقي المدرسة في الفرصة، وكنت فعلاً أطلق تعليقات لم أقصد بها الإضحاك بقدر ما كنت أعبر عن شعوري أو ردة فعلي عما يجري في الحصة فقط لا غير.

فأول موقف أتذكره جيداً عندما كنت في الصف الخامس، تأخرت أختي التي تكبرني بثلاث صفوف عن الباص لأنها كانت تشتري الحلوى من المقصف، وكنت قد طلبت من سائق الباص أن ينتظرها دقيقة واحدة، فرفض قائلا: "لن أنتظر أحدا"، فما كان لي إلا أن أجبته بصوت عالٍ بأنه "ليس من حقك أن تتركها وليس معها أحد".

 

كان في تفكيري الطفولي آنذاك بأن دقيقة واحدة لن تؤثر عليه أبداً فعبّرت لا إراديّاً عن اعتراضي لما سيفعله، لكنه فاجأني بشكوى قدّمها ضدي لمديرة المدرسة قائلاً وبالحرف الواحد "كنت سأصاب بجلطة وهي تتناقش معي"…

 

أذكر جيداً تفاصيل ذلك اليوم، أين كنت أجلس في الصف، وأي حصة كانت، عندما أخبروني بأن المديرة تريد التحدث معي. أذكر أيضاً كيف كانت دقات قلبي تتسارع وأنا في طريقي إلى مكتب المديرة. وبختني وكتبت في أوّل تعهد مدرسي بحياتي مفاده أن لا أتصرف هذا التصرف مرة أخرى.

وقبل الإنتهاء من جلسة التوبيخ طلب مني مسؤولو ضبط التعهد بأن أكتب اسمي في آخر الصفحة ففعلت كما طلبوا لكنني قمت بخط توقيعي تحت اسمي أيضاً. فما كان منهم إلا أن نظروا مستغربين وعلّق أحدهم متهكماً: "كمان عندك توقيع، ماشاء الله!"

 

ومنذ ذلك اليوم وأنا في الصف الخامس، أصبحت حديث المدرسة لفترة لا بأس بها وبدأت رحلتي مع التحديات المدرسية.

 

 إحدى المواقف التي لا تزال عالقة في ذاكرتي كانت عندما ألحقني والدايّ في دروس الموسيقى والتي كانت تعقد بعد الدوام الرسمي في المدرسة أيام السبت والخميس، كنت حينها أعزف على البيانو ومنسجمة جداً فما كان من إحدى المعلمات أن قالت لي: "أنا مصدومة من جديتك في الدروس، أول مرة أسمع من أحد أنك ملتزمة، لكنني أعرف أنك لن تبقي ملتزمة فالطبع يغلب التطبع"…!!

 

بقيت في تلك المدرسة حتى الصف السابع، وقد قامت أمي بناءً على طلب خاص من المديرة بنقلي من تلك المدرسة. أخبرت المديرة أمي بأنها لا تستطيع تحمل وجودي عاماً آخر معها حيث يكاد لا يمضي أسبوعاً واحداً دون شكوى ضدي، كان محور الشكاوى بأنني أتحرك كثيراً، وأدافع عن زميلاتي كثيراً، وأنني أقوم بقراءة الكتب والروايات في حصص العلوم والرياضيات وحصص أخرى أحياناً، وأناقش المعلمات بكل شيء لا يقنعني، بالإضافة أنني أقوم بإضحاك زميلاتي في الصف كثيراً بتعليقاتي الخارجة عن النص الدراسي.

 

للأمانة، كنت فعلاً أتحرك كثيراً، ونعم، كنت محامي دفاع عن الصف وعن باقي المدرسة في الفرصة، وكنت فعلاً أطلق تعليقات لم أقصد بها الإضحاك بقدر ما كنت أعبر عن شعوري أو ردة فعلي عما يجري في الحصة فقط لا غير.

 

تم نقلي إلى مدرسة أخرى، أقل نظاماً بصراحة، السيناريو متشابه نوعا ما لكن الوجوه مختلفة، بدأت المديرة بطلب أهلي شاكية لهم بأنني مشاكسة، وبأن العديد من الطالبات يحاولن تقليد شخصيتي وأنها فقدت السيطرة على المدرسة بسبب ذلك!

 

كنت لا أسمح لأحد أن يقوم بتوبيخي بكلمات قاسية، ومن كان يحاول إسكاتي لا أسمح له ولا أعطيه أي مجال لكنني لم أكن أسيء الأدب، كما أنني لم أكن أقبل أن أعتذر.

بدأت هنا أستوعب القصة، وهي بأنني لست المشكلة بل أن المشكلة بالنظام التعليمي و"التربوي" الذي يريدني صورة نمطية عن ألف طالب وطالبة، وربما أن الطالبات لم يكن يحاولن تقليدي بقدر ما كنّ يحاولن أن يعبرن عن أنفسهن وأن يكن على طبيعتهن.

 

المشكلة أصبحت واضحة، أن لا أحد في زماننا ذاك، يتحمل تلك الشخصية التي تتكلم وتعبّر عن نفسها وتتحرك، مع أنني وأقولها للعبرة فقط وباعتراف صديقاتي، كنت أضيف بعضاً من الحيوية وحس الفكاهة للصف.

 

وللغرابة فإن معلماتي كن يقلن لي ولوالدتي أن مشكلتي تكمن بأنني واضحة جداً، بينما الطالبات الأخريات يشاكسن بطريقة متخفيّة وكأنهن يطلبن مني أن أكون بوجهين، أو أن لا أتصرف بالعلن.

 

كنت محظوظة بأبي حيث أنه استوعب شخصيتي مبكراً، وبأمي رغم أنها أخذت وقتاً طويلاً لتضع المدرسة عند حدها لكنها فعلتها أخيراً. عرفوا أهلي أنني مختلفة فقط، وأن شخصيتي ليست مؤذية أبداً، بل أنني فقط طفلة تحب المرح وتكره أن تنصاع لقوانين غير مقنعة وتحب التعبير عن مشاعرها، كما كنت أفعل بالمنزل تماماً. ونعم كنت لا أسمح لأحد أن يقوم بتوبيخي بكلمات قاسية، ومن كان يحاول إسكاتي لا أسمح له ولا أعطيه أي مجال لكنني لم أكن أسيء الأدب، كما أنني لم أكن أقبل أن أعتذر..

 

 فقد أعلنت أمام الجميع أن مبدئي يقول: إما الاعتذار أو التوبيخ، أما كلاهما فلا، حيث أنني لم أقتنع يوماً أن بعد التوبيخ الجارح يجب على تقديم الاعتذار أيضاً.

 

ذكرياتي بالمدرسة تضحكني كثيراً لأنها كانت مرحلة مليئة بالمغامرات اليومية، لكنني أشعر بالحزن أحيانا بأن كان بإمكان كل المدارس التي درست بها أن يخرجوا مني طفلة مبدعة.

ونأتي لنهاية حياتي المدرسية، حيث لكم أن تصدقوا بأنني أمضيت آخر شهرين من صف الثانوية العامة أدرس بالمنزل لأن المديرة حرمتني من المجيء للصف، لماذا؟

 لأنها ضربت أختي الصغيرة التي لم تتجاوز السبعة أعوام حينها، وعندما اعترضت بعصبية شديدة، فشتمتني المديرة ورددت عليها للأسف بنفس الكلمة التي نعتتني بها أمام عدد لا بأس به من المعلمات والطلاب.

 

والحمدلله أنني تحديت نفسي ودرست لوحدي وحصلت على علامات عالية في امتحان الثانوية العامة، ورغم أنني تضايقت كيف تم حرماني من الدوام المدرسي وحتى من آخر رحلة مدرسية مع صديقاتي لكنني والحمدلله على الأقل لم أحرم من حضور حفلة التخريج.

 

ذكرياتي بالمدرسة تضحكني كثيراً لأنها كانت مرحلة مليئة بالمغامرات اليومية، لكنني أشعر بالحزن أحيانا بأن كان بإمكان كل المدارس التي درست بها أن يخرجوا مني طفلة مبدعة..

لكنهم اتّبعوا الطريقة السهلة معي وهي بأن يتم إسكاتي فقط، والحمدلله أنهم لم يستطيعوا.

 

 كان بإمكان سائق الباص أن يناقشني قبل أن يشتكي علي ويقول لي بأن التأخير غير مسموح به، لأنه لو تأخر كل طالب دقيقة فسيصبح الوضع فوضى.

 

 وكان بإمكان مربية الصف أن تستغل طاقتي الزائدة عن حدها بنظرهم بأن تعيّنني مشرفة على الصف، لا أذكر أنني يوما ألقيت كلمة الصباح في الإذاعة المدرسية، فبرغم صوتي الجهور وكتاباتي والكتب التي كنت أقرأها، كان من يحصل على شرف المشاركة بالإذاعة المدرسية هم أوائل الصف فقط، وطبعاً الطلاب الذين يتمتعون بالهدوء، ومع أنني كنت ذكية وملتزمة بأداء كل واجباتي، ومع أنني لم أهمل دراستي يوما لكن كل هذا لم يشفع لي عندهم.

 

على جميع من فشل وتمرد وأصبح إما مخترعاً أو كاتباً أو موسيقياً، أرجوكم اتركوا أولادكم ليكونوا مبدعين، لا تنزعوا إلهامهم لتتباهوا بالصورة النمطية التي يمشون عليها.

لطالما رغبت بأن أكتب عن هذا الموضوع منذ سنوات عدة، عن الأسلوب الذي كان متبعاً في كل المدارس وحتى البيوت بوقتنا، وأن معايير التعليم كانت، وللأسف لا زالت، خاضعة لتلك القوانين القاسية التي تريد أن تضع الطلاب في قوالب محددة يسهل صقلها والتحكم بها.

 

 فالكادر المدرسي يحاول أن يخمد شخصية الجميع لأن هذا ما تعلمه، والأهل يخافون أن ينعت ابنهم بقليل الأدب فيقومون بإخماد شخصيته أيضاً، ذلك الأسلوب الخاطئ الذي أنتج أشخاصا لا يعرفون ما يريدون، يقلدون بعضهم دون تفكير، يلتحقون بالتخصصات حسب معدلاتهم فقط غير آبيهن بمواهبهم وإمكانياتهم.

 

المحزن أننا وبعد كل هذه السنوات مازال بَعضُنَا لا يدرك أهمية الإبداع والتفرد أكثر من أهمية التحصيل العلمي، كم أتمنى من قلبي أن يتم التغيير الجذري بتلك الأساليب البالية، كم هو جميل أن نتطلع كمسؤولين على جميع المبدعين الذين لم يكونوا مرغوبين في المدارس من الأصل..

 

على جميع من فشل وتمرد وأصبح إما مخترعاً أو كاتباً أو موسيقياً، أرجوكم اتركوا أولادكم ليكونوا مبدعين، لا تنزعوا إلهامهم لتتباهوا بالصورة النمطية التي يمشون عليها، واتركوهم لفطرتهم لعل وعسى أن لا يكونوا هؤلاء الموهوبين في خطر، لعل وعسى أن نخرج أجيالاً نفتخر بهم على مر العصور..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.