شعار قسم مدونات

الانقلاب على الموروث

blogs - الصوفية
إن من سنن الحياة على الأرض هي انتقال الأشياء من جيل إلى جيل، وتوريث الأجيال بعضها بعضاً لكل مظاهر الحياة من شجر وحجر ودواب، حتى إن الهواء الذي نتنفسه امتلكه من قبلنا وورثناه عنهم، غير أن سنة التوريث هذه لم تقتصر على المادة والملموسات فقط، بل إنها شملت أيضاً الأفكار والمعتقدات والعادات والتقاليد التي تنصهر جميعاً في بوتقة واحدة تدعى الموروث الفكري للشعوب.

لقد لاقت الموروثات الفكرية على مر التاريخ محاولات للانقلاب عليها وتغييرها وتحويل المسار الفكري إلى اتجاهات أخرى، أدت في نهايتها إلى تحويل مجرى التاريخ عدة مرات وبصور مختلفة، والصورة البارزة في كل تلك المراحل ونقاط الإنقلاب كانت هي الدين، المؤثر الأكبر والأبرز في الحالة الإنسانية كاملة، حتى وإن رفضنا الاعتراف بذلك في عصر العولمة والإنسانية المفرطة والمادية التي تطغى.

قد تكون بعض محاولات الانقلاب على الموروث محمودة حينما يختص الأمر بأفكار ومعتقدات بشرية عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة للزمن الحاضر، ولهذا قد تكون محاولة الانقلاب والتجديد هنا ضرورة لا مفر منها لتنتج صيغة فكرية جديدة تتناسب مع أحجام العقول والرؤى الإنسانية التي تتوسع باضطراد مستمر وفقاً لاعتبارات اجتماعية وسياسية، ولكن علينا أن نميز هنا ونسأل سؤالاً ضرورياً، ما هي المظاهر التي تفرض على الفكر البشري الانقلاب على موروثه؟

عند الانتهاء من قراءة رواية قواعد العشق الأربعون لم أجد رسالة تدعو لها سوى الدعوة للصوفية بأسلوب فج وواضح.

لقد كان هناك عدد من الظواهر الاجتماعية التي نتجت عن حكم الكنيسة في أوروبا، منها بعد الدين عن العقل البشري وعن العلم، وتفشي الجهل والتخلف، كانت هذه من أبرز المظاهر التي أنتجت انقلاباً فكرياً طبيعياً على موروث بالي من صنع كهنة وأرباب مزيفين، كانوا يشرعون لصالحهم باسم الرب، لذلك كان المجال متاحاً وواسعاً للفلسفة البشرية أن تقتحم مجال التشريع من أوسع أبوابه، والملفت هنا أن هذه المظاهر التي توفرت في النموذج الأوروبي والتي أنتجت انقلابا على الموروث غير متوفرة في النموذج الإسلامي، ففي النموذج الأوروبي كان الانقلاب على الموروث حالة شعبية، أما في الحالة الإسلامية فقد تم اختطاف الموروث وإخفاؤه.

على الرغم من أن الإسلام في السنوات الـ 100 الأخيرة لم يكن يشكل حالة شعبية ولا حالة أممية، إلا أنه كان عنوان كثير من الأحداث في تلك السنوات المنصرمة، فهو إن لم يكن حاضراً عند من يحملونه إلا أنه كان حاضرا وبقوة عند من يناهضونه، وفي الوقت ذاته يظل حاضراً وباستمرار في أذهان الشعوب الإسلامية وينظر إليه كحالة نجاح ونهضة وتفوق في عصور سالفة، كحالة يمكن إعادة تطبيقها وتنفيذها لتكون فعالة وتنهض بأمة أعياها الجهل والدمار واستشرت فيها جميع الأمراض النفسية والفكرية.

إن من دواعي الذعر والخوف أن تستمر تلك الحالة في الانتشار والتضخم عند تلك الشعوب، لذلك حاولت القوى التي تسيطر على رأس المال أن تخلق مجموعة من الانقلابات الفكرية الوهمية، محاولات لإنتاج مولود مسخ يمثل انقلاباً فكرياً وهمياً لتتبناه الشعوب الإسلامية وتنسى تراثها الذي أخذ منها غصباً، فكان المولود المسخ يتمثل في أشخاص أحياناً، ويتمثل في أعمال فنية أحياناً، ويتمثل في جماعات أحياناً أخرى.

إحدى تلك المحاولات كانت اقتصاص جزء من الدين، أو أخذ بعض منه وترك بعضه الآخر، فكانت الأصوات الداعية إلى نبذ الأحاديث الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الأخذ بها والاقتصار على ما أتى في القرآن الكريم باعتبار أنه الكتاب الوحيد الذي لم يعتره الخطأ ولا التحريف والنقص، وبالرغم من تفاهة تلك المحاولة إلا أنها لاقت أصداء كبيرة بشكل خاص عند أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن دينهم، فلو أننا فرضنا جدلاً بصحة ما يدعون، وأننا يجب أن نأخذ اليقين من القرآن فقط دون التطرق للصحيحين، فماذا نفعل أثناء مرورنا على هذه الآية في سورة النساء ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُم))، أو كيف يكون الحال عند مرورنا على هذه الآية في سورة آل عمران ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))، إننا هنا ندخل في مآزق دينية تحول الدين الإسلامي إلى دين من صنع أفكارنا، دين يوافق هوانا، فإذا اضطررنا إلى اتباع تلك الدعوى فسندخل في منزلق خطير عنوانه أن القرآن غير صالح لكل زمان ومكان، ويصبح ديننا بالانتقاء، ننتقي من الكتاب ما شئنا ونترك منه ما شئنا، ولهذا إن أردنا أن نتبع القرآن فسنتبع الرسول وإذا أردنا أن نتبع الرسول فسوف نتبع الصحيح من السنة، وإذا أردنا أن نتبع الصحيح من السنة سننبذ بكل سهولة هذه الدعوى، وإن كنت من أولئك المقتنعين بهذه الدعوى، خذ الإسلام جملة واحدة، أو اتركه جملة واحدة، فهو غير قابل للحذف والتعديل!

لك أن تحصي الجماعات الإسلامية التي تم خلقها وشيطنتها وإلباسها عباءة الإسلام في 100 عام الأخيرة، ولك أن تتخيل ما تسببت فيه تلك المحاولات من تشويه للإسلام في وعي الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء.

أما المحاولة الأخرى فهي محاولة قديمة جديدة، لها جذور من التاريخ الإسلامي أيضاَ، ولأن ورقتها قد تكون رابحة، فلا يزال اللعب بها مستمراً، إنها محاولة تصويف الدين، ودروشة الطقوس، وتهميش الجانب الإلزامي من الدين الذي لا يوافق هوانا، وهذه المحاولة كما أراها ليست كسابقتها، فهي تدعو إلى ترك الدين ككل، والإبقاء على رموز وشكليات لا أكثر، فهي دين آخر ينتمي إلى الإسلام، ويصعب حتى أن نسميه مذهباً!

لقد انتشرت رواية بشكل واسع في الآونة الأخيرة تحمل عنوان "قواعد العشق الأربعون"، للكاتبة التركية "إليف شافاق"، وكانت انتشارها الواسع ومدى الاستحسان الذي لاقته هو ما دعاني لقراءتها، ولكني عند الانتهاء من قراءتها لم أجد رسالة تدعو لها سوى الدعوة للصوفية بأسلوب فج وواضح، فجلال الدين الرومي العالم الجليل استبدل عباداته وعلمه الشرعي بطقوس الرقص والدروشة ووجد ما يبحث عنه فيها! وتلك الفتاة التي استفتت شمس الدين التبريزي في آية ودعاها إلى حذف كلمة منها لتصل إلى المعنى الذي يرضيها ويوافق هواها، ناهيك عن شطحات شمس الدين التبريزي ومحادثاته غير المنقطعة مع الله! وهنا الرسالة الأخطر، التي عنوانها الاستهانة بالله وعظمته والاستهانة بالأحكام والشرائع! في الرواية جوانب جيدة تدعو إلى المحبة والسلام وعدم احتقار العصاة وعدم النظر إلى آراء الناس فيما تفعل، وأن تفعل ما تفعله فقط من أجل الله، وكلها رسائل جيدة ويدعو لها الإسلام أصلاً، ولكن الشطحات الأخرى أتت على سبيل دس السم في العسل، وإن كان العالم جلال الدين الرومي لم يجد الراحة والسكينة في عباداته وعلمه وقرآنه واستبدلها بالرقص فأشك في عباداته وعلمه، ولك أنت أن تحكم!

في المحاولتين السابقتين كان طابع النعومة والسلاسة يطغى، أما في المحاولة الثالثة فإن طابع العنف هو الأبرز، ولك أن تعدد وتحصي الجماعات الإسلامية التي تم خلقها وشيطنتها وإلباسها عباءة الإسلام في الـ 100 عام الأخيرة، ولك أن تتخيل ما تسببت فيه تلك المحاولات من تشويه صورة الإسلام في وعي الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء.

من هذه الظواهر الثلاث السالف ذكرها؛ لك أن تستنتج أن هناك مؤامرة، ومن فشل المحاولات الثلاث، لك أن تستنتج أن الله لا يزال يحفظ هذا الدين كما أنزله، وسيستمر بحفظه له كما وعد، وكان وعد الله حقاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.