شعار قسم مدونات

تغير في الصورة.. وما خفي أعظم

blogs - trump

لئن شهدت الولايات المتحدة الأمريكية تداولا متواصلا على السلطة اختلفت فيه الأطراف من حيث الانتماءات والخلفيات، إلا أنها عرفت استمرارية في المنهج السياسي العام والأهداف التي حددتها كأمة، لا كأفراد وجماعات تتسلم وقتيا زمام الأمور.
 

ومن السياسات التي تم الحرص على تفعيلها ومواصلتها على مر السنين هي الترويج للصورة النمطية للولايات المتحدة الأمريكية، القائمة على إنزال هذه الدولة كمهد لحقوق الانسان والديمقراطية العصرية والقدوة لغيرها من الدول. وكدليل على التناقض الموجود بين الحقيقة وما يروج له، نستحضر تقديم الولايات المتحدة لنفسها كمدرسة للقيم في مختلف المحطات والمناسبات في نفس الوقت الذي كانت فيه آلياتها العسكرية تنتهك حرمة العراق في عهد جورج بوش وماكينتها المالية والاستخباراتية تؤسس وتحرص -في عهد أوباما- على استمرارية ما أصبح يعرف بداعش، الورم الخبيث الذي ما انفك يفتك بجسد الأمة العربية، زارعا الفتن ومروجا لفكر التطرف وتشويه الديانات وتحريفها.
 

خطورة تجرد ترمب من غطاء الطيبة والقيم لا يقل أثرها عن خطورة قراراته، فصراحته واندفاعه وعدم مبالاته لم تستفز نفوس المقصودين فحسب، بل مست حتى مواطنيه ووزرائه.

فعلى قدر حرص السياسات الأمريكية على تسيير العالم بطريقتها، سواء تناغمت هذه الطريقة مع الحد الأدنى من التعامل الإنساني أو لا، نرى حرصا كبيرا على تلميع الواجهة والتأكيد على ما تم ذكره من قيم وإنسانيات في التعامل، لكن يبدو أن الرئيس الجديد قد تخلى عن سياسة التلميع والتجميل وأعفى نفسه من عناء تحسين ما قبح. بل وانطلق في تفعيل قرارات تبدو غير مدروسة واعتباطية، كان قد وعد بها خلال حملته الانتخابية، في وسط ذهول كبير من جميع الأطراف، حتى منتخبوه عرفوا صدمة أمام ما نعت بالطعن في قيم الحرية والمساواة ونبذ العنصرية.
 

إن خطورة تجرد الرئيس ترمب من غطاء الطيبة والقيم لا يقل أثرها عن خطورة المواقف والقرارات المتخذة، فصراحته واندفاعه وعدم مبالاته زادت الطين بلة، ولم تستفز نفوس المقصودين بهذه القرارات فحسب، بل مست حتى مواطنيه وبعضا من وزرائه الذين أبدوا رفضا قاطعا. لا يخفى إذن على محلل ولا مراقب أن العهد الجديد للولايات المتحدة الأمريكية يحمل في طياته تغييرات عميقة من حيث الشكل والمحتوى، وترغمنا على طرح تساؤلات عديدة وإبداء استغراب وتعجب.

ألم يفكر البيت الأبيض في عواقب هذه القرارات وطريقة طرحها؟ ألم يخف ترمب على قاعدته الشعبية التي سرعان ما انسحب جزء كبير منها؟ ألم يعاد هذا الأخير كل نفس آمنت بالحرية والمساواة، سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها؟ ألا يعد حق السفر والاستقرار ركيزة وبعدا رئيسا في نظرية التعايش السلمي والعولمة؟ أنسي ترمب أن المجتمع الأمريكي نسيج متنوع الأصول والأعراق؟ أيسعى إلى استرجاع هيبة أمريكا بالاستغناء عن طيف من روحها؟
 

يبدو أن الأيام القليلة القادمة ستجيب عن الكثير وستحسم العديد من المواقف وسنرى إما تواصلا لهذا النسق أو تغييرا في السياسات. لكن في كل الحالات يبدو أن ملامح العالم ستواصل تغيرها وستتسارع الأحداث وردود الأفعال أكثر فأكثر. ففي خضم الصراعات والحروب تطفو قيادة جديدة لأكبر قوة سياسية في العالم بقرارات تهوي على ما تبقي من صورة الولايات المتحدة القديمة وتفضح الوجوه الحقيقية للسياسات الأمريكية فتزيد نقمة البعض على الولايات المتحدة من جهة وتدعم الكره الموجود ضد المسلمين حول العالم من جهة أخرى، ولعل هجوم كندا أبرز دليل على ذلك.
 

لا يحق إذن لأي كان أن يستغرب شيئا من هذا العالم الغريب والفوضوي، فخطاب ترمب المليء بالتكبر والمؤسس لنازية جديدة تمجد عرقا وتقدسه على حساب الآخرين، استباح الإرهاب والإرهاب الآخر، الإرهاب المحسوب على الدين والمسلمين والإرهاب القائم على معاداة الناس حسب دينهم وعرقهم. وهذا تأكيد على أن أزمات العالم لن تشهد انفراجا على المدى القصير، خصوصا في ظل الصمت المعهود للحكام والساسة، خاصة العرب منهم.
 

لا مؤشر -حسب رأيي- على تحسن قادم في الجو العام للعالم ككل، لاسيما وأن المرء لم يعد قادرا على تقسيم الخارطة السياسية للعالم، فما يحدث في شرقه سيؤثر حتما على غربه، وإن ظن البعض أنهم ناجون مما يحدث فيه فهم مخطئون. العالم سفينة واحدة تجمعنا، فإن كان من يخرقها أكثر ممن يرممها، فنحن غارقون لامحالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.