شعار قسم مدونات

بَحثا عن الجالية السعودية

blogs شيوخ

مما توافقَ عليه اللّسان العام ورواد مواقع التواصل الاجتماعي عندنا، تسميةُ كتائبِ السلفية المُدخلية في بلادنا بـ "الجالية السعودية"، ذلك أنها لا تُخفي ولاءَها المُطلَق للمملكة العربية السعودية، التي ينعتونها بمملكة التّوحيد ويسبّحونَ بحمدِها ليلَ نهار، تعصّبا لبعض الآراء الفقهية والدينية التي تَصبُّها علينا السعودية صبّا منذ عقود، حتى أصبَحت مساجدنا مُهدّدة بفقدانِ الشيء الوحيد الذي يُميّزها عن العالم الخارجي، بعدَ أن فقدت دورها الريادي والقيادي منذ زمن بعيد، ألا وهو السكينة والطمأنينة والجو الباعث على التأمل والخشوع، والتحرّر المؤقت من حصارِ المادّية المتوحشة ومشاغل الحياة المُتربّصة بالعقلِ والقلبِ والجّيب..

 

الشيء الذي أصبحَ أمرا واقعا أليما تُعاني منه أكثرُ مساجد الجمهورية، بسبب هجمةٍ مُنسّقة وممنهجة طالت هوية الشعب الدينية في منابعها الأساسية، بُغية تحويرها وتحويلها إن كانَ ذلك ممكنا، أو تدميرها والحيلولة دون قيامها بدورها الطبيعي والمُعتاد في نشر الفكر الديني الصحيح، المُنسجم مع الزمان والمكان والمُحيط، بجميع ما يعنيه ذلك من فهمٍ للواقع والتاريخ والحاجيات ومِن حِرصٍ على الرسالة وسلامَةِ المُجتمع في عقيدته وفهمه لدينه، بما لا يخلّ بانتمائه لوطنه ومسؤوليته تجاهَ أهله وقومه، وانخراطه في منظومَةِ بلاده التربوية والاجتماعية.

 

غارات لمفاجئة يشنونها على الناس يَحسبُون أنفسهم أوصياء عليهم وعلى دينهم، بل يخالون أنفسهم في شوارع الرياض ليُداهموا ويقاطعوا وينغّصوا على من يُريدون بحجّة الأمر بالمعروف

هجمَةٌ أخرَجَت لنا مساجد ومؤسسات دينية وأفواجا من المُتدينين بخطابٍ جَديدٍ صَادم، وعدائية فجّة لأعرافِ وعاداتِ وطريقةِ تفكيرِ وتديّن الشعبِ الذي تَمسَّك بدينه طيلةَ قَرنَين من الاحتلال والتنصير ثم التجهيلِ والطّمس، فأًصبحنا نجدُ أئمةً يَدعون لخادمِ الحرمين في خُطَب الجمعة بالنصر والبطانة الصالحة، وكأنه إمامُ المؤمنين وخليفة المسلمين، ونرى أفواجَ المُصلّين تغزو محطّات النقل لساعاتٍ طويلة حتى يتسنّى لها الصلاة في مَساجد مُعيّنَة بعيدة دونَ غيرِها مما جاورَهم، هاتِه الأخيرة التي ينعتونَها بمساجِد الضرار ويرمُونَ أئمتها والمُصلّين خلفهم بالجهل والضلالة.

 

بمرور السنوات واستمرارِ عملية ضخّ المطويات والقصاصات والأشرطة المسموعة، وتوزيعها وترويجها بطرق خبيثة لا تمت إلى آداب الدعوة بصلة، أًصبحنا اليوم لا نجدُ المطويات ومناشير السلفية مخبّأة بداخل المصاحف، أو تحت السجّاد أو فوقَ صناديق الزكاة حتى يجدها المصلّون رغما عنهم، ولم يَعُد دُعاة الدين الجديد يعترضون طُرقَ الأطفال يُغرونَهم بالحلوى مقابل أخذ مَطوية أو مَطويَتين وإعطائها للأب الحنون أو الأخ الحبيب، كما حصَلَ مع أخي الصغير عندما كنا نتحدّث عن المولد النبوي، ففاجأ الجميع بإحضارِ تلك المطوية الغنية بالألوان المطبوعة طبعا فاخرا، والمُعنونَة بهيئةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يَعلوها شعارُ المملكة العربية السعودية وفيها رقمُ الفتوى ومصدَرُها وصِفة الشيخ المُفتي، تقضي وتُفتي في كلِّ مناحي الحياة بما يُخالفُ غالبا مَذهب الدولة، ويزاحِمُ ما يتعبّد به الناس مِن آراء فقهية صحيحة وأصيلة.

 

ثم اختفت غاراتهم المفاجئة على الناس يَحسبُون أنفسهم أوصياء عليهم وعلى دينهم، بل يخالون أنفسهم في شوارع الرياض ليُداهموا ويقاطعوا وينغّصوا على من يُريدون بحجّة الأمر بالمعروف، بأسلوب فظ واستعلاءٍ مقيت، وعباراتٍ وألفاظ مُنفّرة منهم ومن مَظاهِرهم التي قد يكون فيها من السُّنّة الصحيحة شيء كثير، وتلاشت تلكَ الوريقات التي كنا نجدها في محطّات القطار والحافلات، والمُلصقات التي كانت تواجهنا في طوابير الانتظار، وغابت تلك الإعلانات التي كنا نجدها كل يوم مُعلّقة على أبوابِ المساجد وأعمدته، "احذر أخي المسلم" و "لا تكن مبتدعا" و "كل ضلالةٍ في النار"، التي يسعى القائمون على بيوت الله على إزالتها كلّ يوم، ما يجعلنا نسأل بإلحاح، من أين تأتي كل تلك المطويات الفاخرة بذلك العدد الهائل الذي يغزو مئات المساجد؟..

 

كل ذلك وأكثر لم يعد موجودا ولا ضروريا، فقد كَبُرت المطويات واشتدَّ عُودها فأنبتت اللّحَى وقصّرت الأقمصة والسراويل، ووضَعت السِّواك الطويل ظاهرا في جَيبِ القميص العلوي إغاظة لأهل "البدعة" الذين لم ينكروا شيئا مِمّا سَبَق، تَحوّلت القُصاصات المصنوعَة إلى عُقُول مَطبوعة وقوالبَ فكرية مؤطّرَة تُعالجُ نَفسَ القضايا، وتكرّرُ نفسَ الفتاوى وتحفظ نفسَ الأحاديث والاقتباسات من تسجيلاتِ ودرُوسِ ربيع بن هادي والشيخ مُقبل والفوزان وآل الشيخ، ولم نعد نسمعُ عن الإبراهيمي والغرياني وزرّوق والطاهر بن عاشور والشنقيطي وشلتوت.

 

انتقلت الأوراق والصحائف إلى أفواج من النُّسخ المتشابهة تغزو المنابر والمساجد والجامعات، ثم تحوّلت بمرور الوقت واكتسابِ الجرأة إلى كتائب اغتيالٍ معنوي لكلِّ شيخ أو عالم أو داعية أو مُصلح أو جماعة أو مجموعة أو حزب يرونه مُخالفا لمذهبهم الفكري الخالي من التفكير، عمليات اغتيال لم تكن أبدا ارتجاليةً تقودها ذئابٌ منفردة، بل أصبَحَت تُدار من قِبَل قطعان مدربّة تعرف ما تريد ومتى تثير الحملات وكيفَ تشوّهُ السُّمعَة وبأي شَكلٍ تُدمّرُ الاعتبار، تركزّ كلها على العاملين والمُناضلين والمُصلحين والنشطاء..

 

الشيخ نادر العمراني (مواقع التواصل)
الشيخ نادر العمراني (مواقع التواصل)

لا يتوانون عن الافتراء والكذب بغية تحقيق مآربهم، ثم لا يعدمون الوسيلة والفتوى لتبرير ذلك بحجة أن المُبتدعَ لا غيبة له وأن الغايةَ تُبرّرُ الوسيلة إذا أدى ذلك لصرف الناس عن الضّال وصاحب البدعة، حتى وإن كانَ من تلك الوسائل تفريق ذات البين والتطفّل على الخصوصيات وتشتيت العائلات واللّسان السليط والأسلوب البذيء، وحتى الاعتداء إذا تيسّرَ ذلك، بل والاختطاف والقتل كما رأينا ونرى كثيرا في ليبيا الحبيبة، مُرورا بالشيخ الشّهيد نادِر العمراني وصولا إلى الكثير من المُختَفين والذين يتعرّضُون للتهديد كل يوم..

 

حالنا لم يَصِل بعد إلى حال ليبيا، لكننا نؤمن بأنها منظومة بمراحل مُمَنهجَة في التوغل والتغوّل وبسط السيطرة ونشر المعتقدات وتطبيعِ المظهرِ والقولِ والفعل، حتى يُصبحَ وُجودُهم طبيعيا في عين العامة، معتادا ثم مَقبُولا بعدَ فترةٍ قصيرة، لعلهم بذلك يتخلّصون من عُقدة الغربة عن المجتمع، وهو الذي لا يمكنهم التخلص منه، فهم كذلك بالأمس واليوم وغدا، جاليةٌ أجنبية وخلايا نائمة بأجندة تخريبية غريبة..

 

سمعتُ من شيخي ع.س أنهم كانوا يتربصون به خارجَ مسجده الذي يغشاه مِئات المُصلّين يوميا، عندما كان يُعلن عن جلساتٍ بعدَ صلاة المغرب، خاصّة بالمُدمنين يُحدثهم ويحدثونه، يفضون له بمكنوناتهم ومشاكلهم الاجتماعية ويسعى في حلّها والتوسّط لهم في مؤسسات التأهيل والعلاج من الإدمان، فكانت كتائبُ المدخلي تنتظرُ انتهاءَ جلساته لتعترضَ طريقَ خُروجِهم لتحذرهم منه وأنه ضالٌ مُضّل ومبتدع، وخطر على الدولة والحكومة وأنهم بحضور دروسه والتردد على مسجده يعينونه على باطله، وقد يتعرضون للأذى بجريرته، فكانَ شيخي يقولُ بمرارة وأسى أن عدد المدمنين بدأ بالانخفاضِ حتى أًصبحوا يُعدّون على الأصابع بعدَ أن كانَ المسجد يعجّ بالعشرات منهم..

 

ولم أجد ذلك غريبا ولا أي أحد من رفاقي، فقد جعلونا وجعلوا نشاطاتنا ومشاريعنا نصبَ أعينهم وجلعوا يشوهون صورتنا ويعترضون طريقنا ويرمون الشوكَ في سبيلنا، حتى توقّفَ أكثرنا عن العمل، وأغلِقَت الكثير من المُصلّيات وفشلت مشاريع ومبادرات وحَمَلات كثيرة، لأنهم كانوا يقفون في وجهنا عند كل حركة ويسعون ويبذلون في إفشالنا ما لا يبذله خصومنا التقليديون بالجامعات والمدارس.

 

وقد كنتُ شاهدا على عَريضةٍ رفَعها بعضُ أدعياء السلفية، يطلبون جمعَ التوقيعات لغلقِ مُصلّانا الذي كنا نديره بإحدى الإقامات الجامعية بالشرق الجزائري، وكان ذلك واضطررنا للسعي وطرق أبواب الطلبة لجمع توقيعاتٍ مُضادّة، حتى نُفوّتَ عليهم فرصة تحطيم عملنا بحجة الرغبة العامة، والغريب في أمر ذلك التصرف، أنهم كانوا يوزعون المناشيرَ المناهضة لنا تساعدهم في ذلك تنظيماتٌ معروفة بالعلمانية المتطرفة ورفضِ وجودنا ووجودِهم معا..

 

أين الآلاف المفقودين من الجالية السعودية الحبيبة، إذ أنهم مختفون منذ فترة، لا نراهم ولا نسمع منهم أو عَنهم، كأن الأرضَ قد ابتلعتهم
أين الآلاف المفقودين من الجالية السعودية الحبيبة، إذ أنهم مختفون منذ فترة، لا نراهم ولا نسمع منهم أو عَنهم، كأن الأرضَ قد ابتلعتهم
 

بل إن بعضهم وجد بقايا لقصاصةٍ عليها بعضُ الأدعية المأثورة، فقام بجمعها وإلصاقها ورفعها كاحتجاج لإدارة السكن بحجة ترويجنا لفكرٍ ضال، فكنا نتعرضُ للتوبيخ واللّوم مرارا بسبب أدعية الصباح والمساء، بينما يقومون جهارا نهارا بنشر وتوزيع ما يريدون دونَ حسيب أو رقيب، بل وتصل بهم الدناءة إلى مُقاطعة المُحاضرات التي كنا ننظمها بالساحات والقاعات يؤطرها كبار العلماء والمشايخ، ليكيلوا لهم التهم الباطلة ويرموهم بالإهانات والشتائم على مرأى ومَسمَع من مئاتِ الطلبة، ولم ينج من ذلك حتى الشيخ الددّو وغيره من ضيوف الجزائر، فكيف ينجو منه علماء الجزائر المساكين الذين تصدُر فيهم كل يوم مَقالاتُ وفتاوى التسفيه والاستحقار والصرف عمّا يدعون إليه، والقول بجواز التعرّض لهم ولأعراضِهم إذا كانَ ذلك ضروريا حفظا لجناب "السُنّة".

 

وصراعنا معهم مُستمر على جبهات كثيرة، في كيفية صَلاتنا وتسبيحنا ودعائنا، في حركاتِ أيدينا وأرجُلِنا وأعيُننا وهمساتنا، يَحولون بيننا وبين الآخرين، ويشوشون على كل من يريد التطوع والعمل الخيري، ويعطلون كل من يتعاطف معنا أو يتفق معنا بالأهداف وإن كان مُخالفا لنا في الانتماء الفكري والسياسي، يُزعجهم أن يَروا الاتحاد والتلاحُم بين شركاء الوطن لأن ذلك يشعرهم بعُزلتِهم الأبدية عنا وعن مُجتمعنا، تغيظهم رؤية الجماهير تلتفُ حولَ المشايخ الوسطيين والدعاة الملتزمين، الذينَ تشرّيُوا فهمَ واجتهادَ علماء بلدهم، لا يطيقون النظر إلينا مُنتَشِين بشخصيتنا المُختلفة وبتنوعنا الجميل وبمذاهبنا المُتسامِحَة والمتصالحة، يُريدونها ولايةَ فقيهٍ بعمامَةٍ بيضاء، ونريدها وسطيّةً سمحَةً على المَحَجّة البيضاء.

 

لذلك كله وللكثير مما لم يتسعُ له المقام، أعلنُ بحثا في فائدةِ آلاف المفقودين من الجالية السعودية الحبيبة، إذ أنهم مختفون منذ فترة، لا نراهم ولا نسمع منهم أو عَنهم، كأن الأرضَ قد ابتلعتهم، ربّما وربّما فقط بسببِ ما آلت إليهِ الأوضاع في المملكة الشقيقة، وخشيتهم من أن نواجهَهُم به، مع أنهم يعرفون بأننا نعرف أنهم سَيُكابِرون ويقولون كعادتهم: "نَحنُ نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال"، المقولة المظلومة التي لم نرهم يُطبّقونَها أبدا، فكيفَ ينطقونَ اليوم ومصانعُ المطويات قد أًصيبَت بالخرس، خرَسٌ نرجو أن يستمر وغيابٌ نتمنى أن يدوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.