شعار قسم مدونات

مَن قال إنّ للحقيقة وجها واحدا؟!

blogs دمار سوريا

تصلني رسائل قرّائي وبعضها يعاتبني.. أراجعها بقلبٍ متيقّظ، فتفاجئني حين تحمل إلي رسالتين متناقضتين، واحدة مِن هذه الرسائل تتهمني بالتشاؤم المفرط، وبأنّي أركّز في ما أكتب على ملامح ألمنا وفجيعتنا بأنفسنا، لأعرّي هذا الخضوع العربي وما ترتّب عنه من تيهٍ فرّقنا على الخرائط وسلبنا حرّيتنا، مكرّسا سلبية إنسان هذه الأمة الذي تلاعب بمصيره الأقوياء والمغامرون..

 

أمّا الرسالة الثانية فتتهمني بالتفاؤل المفرط دون مبرّر واقعي يدفع في اتجاه رسم المستقبل بألوان الفرح، وتخبرني بأنّ عليّ أن أتلمّس مفردات الحاضر ومعادلات هذا الزمن، لأبدو منطقية في وصفي للغد، فلا يمكن لكلّ هذا التخاذل والتهافت على العدو أنْ يجلب نصراً أو حتى تقدما ًعلى صعيد مصلحتنا العربية، فكل ما يريده عدوّنا يأخذه منا دون مقابل، وما احتجاجاتنا سوى فقاعات صابون ستختفي وحدها -دون تدخّلٍ منه- إنْ تحلّى بالصبر.. وهو كثيرا ما يفعل.

 

ورغم أنّ الرسالتين تبدوان متناقضتين فإنهما حملتا وجهين للحقيقة، فمن قال إن للحقيقة وجها واحدا! مَن قال إننا نرى الأشياء بالعين ذاتها ونقرأها بالبصيرة ذاتها..

 

ضاعت الغلال وما ربحت سوريا حرّيتها، دُفن الأطفال وسط ركام البيوت التي حملت ضحكاتهم وحكاياتهم، وتبدّد الحلم بوطن يحتضن العصافير والرجال
ضاعت الغلال وما ربحت سوريا حرّيتها، دُفن الأطفال وسط ركام البيوت التي حملت ضحكاتهم وحكاياتهم، وتبدّد الحلم بوطن يحتضن العصافير والرجال
 

أجل! إنّ جولة سريعة في خرائطنا المذبوحة والممزّقة لن تلطّخك بالدماء وحسب، بل وستملأ روحك بصورٍ ستسكنك طويلا، وقد لا تغادرك! اتبعني صوب الشّهباء! تعال معي والتقط بعدسة قلبك صور القلعة وقد تكسّرت أجنحتها التي كانت تحمل حجارتها لتبدو قطعا من السماء! انظر إلى طفولة حلب وقد احترقت بلهيب الظلم والغطرسة، وعرّج على المتاجر التي صدّرت لعروبتنا تاريخاً.. وسياسات اكتفاء.. بلادنا التي ارتدت ثوب الكرامة فما مدّت يدها إلى رغيف أجنبيّ تحطّمت أفرانها ونبش العدو أكياس غلالها، لتأكلها الفئران ويجوع في التهجير أبناؤها!

 

ذُبحت الشام على أعين أهلها، فقتلهم نزف أرواحهم وهم يرون الوطن فتاتا على موائد الأعداء.. ضاعت الغلال وما ربحت سوريا حرّيتها، دُفن الأطفال وسط ركام البيوت التي حملت ضحكاتهم وحكاياتهم، وتبدّد الحلم بوطن يحتضن العصافير والرجال. تفرّق شمل الوطن وصار قطعا موزّعة على الخرائط، قطعا مشوّهة بالذاكرة وقد ظلّت تنزّ بالألم والدماء، فالغرباء يدفعون ثمن تطفّلهم على جغرافية غيرهم من كرامتهم وهويّتهم، فلا أوطان توزَّع بالمجّان.. جرح سوريا موغل فينا ويكوينا ويملأ أرواحنا بالأنين ويصب، كغيره، مِن جراح أمتنا، يصب في عروق فلسطين النازفة ويستنزف طاقة الجسد الواحد..

 

دعنا نغادر الركام والأشلاء والغبار، لا نملك أنا وأنت أن ندثّر سوريا وقد مزّقوا كلّ أغطيتها وسكبوا خمرا على نيرانها لتفقد طهرها وبركتها، واعتلقوا طائر الحرّية ليتوقّف خلف قضبان القسوة عن الغناء، ويعود نشيد الصمت إلى كل الأفواه، فيورق فيها ويزهر بكلماتٍ مِن جليد، أينما تحركت في الأفواه تجرح!

 

مصر تنزف قهرا وهي تراقب شوارعها تُنتهك، وذاكرتها تُشوّه، وتاريخها تُعاد كتابته بيد مشبوهة، مصر يتحشرج منها الصوت وهي تلاحق أنفاسها كي لا تموت

ولنحطّ الرحال في العراق.. الركام هو الركام، ورائحة الموت لا أحد يخطئها، والفرقة تتحرّك كما الدماء في العروق، تُصنّف الناس إلى مستحق للحياة وغير مستحق! وكان يُصنّفهم في الحصار الرغيف.. سنوات حرب الجارية باسم الدفاع عن التراب والأخوّة، تلتها سنوات من الجوع والمرض والحصار، دفعت بها إلى سنوات حرب أخرى من التشرّد والدمار، ودجلة  الذي يُخشى على الناس فيه من الغرق غرق بالدماء! وابتلع قصائد كُتبت في عزِّه، ليتقيّأها مريضاً بها، فتتناثر على صفحته الأشلاء.. حجرات القلب تباعدت، فتهاوى الجسد حين تنافرت في عروقه الدماء!

 

إذن.. نحلّق هناك.. في مصر ذات الشوكة، خير أجناد الأرض، والعين لا تنفك للقدس تدمع.. هناك.. جوع وفقر يُنسي المرء تاريخه ويقسم الظهر فلا ترتفع بالرفض قامة الجوعى الشرفاء.. هناك.. يلوِّح سادة المشهد بالموت.. وبالقضبان! يلوّحون بها كسلَع الشارع.. يلوِّحون بها للمارّة بجيوبهم المعذّبة بالخواء.. في مصر يتقدّم الجاهلُ صفوف العلماء ويؤَمُّ بالمتيقّظين النيام! ليظل صوت الحقيقة في الخلف وتتوقّف كل المعاني العميقة وتنبتُ الكلمات الجوفاء على السطح! يتناول ثمَرَها المسحوقون والمنافقون والراغبون في لعق أحذية الغزاة، ليحصلوا على سوطٍ يرسمون به مصر جديدة على الجلود، فتلك التي لا تزال تنبض في القلوب لا تزال تحتفظ بذاكرتها عن نفسها، لا تزال تحتفظ بمفاتيح عزّها وتبشّر بالرجوع.. فما عاد لسادة المشهد حلٌّ سوى اجتثاث القلوب من الصدور!

 

مصر تنزف قهرا وهي ترى شوارعها تُنتهك وذاكرتها تُشوّه وتاريخها تُعاد كتابته بيد مشبوهة، مصر يتحشرج منها الصوت وهي تلاحق أنفاسها كي لا تموت، فكثير من العمل في انتظارها، وتنظر بعين اللوم إلى أبنائها.. غير أنها تضمّهم إليها وتغنّي لثورةٍ توحّد فيهم دمها وتضبط في عروقهم إيقاع نبضها.. وبدل أن يرتفع منهم الصوت بالغناء، يشتد الصمت! ويبتلع الصابرون الذكر والدعاء..

 

أيّها العربي! مشرق الأرض ينزف من كل الشقوق، ومغربها منهك بيوميات القهر والهجرة! أيها العربي! ما عاد لديك ما تراهن عليه، ما عاد لك وطن عربي!
أيّها العربي! مشرق الأرض ينزف من كل الشقوق، ومغربها منهك بيوميات القهر والهجرة! أيها العربي! ما عاد لديك ما تراهن عليه، ما عاد لك وطن عربي!
 

أترانا نغادر جدراناً كانت تسند تاريخنا ونحن نشاهدها تتهاوى، ويشتد من بين حجارتها تدفُّق الدم والحلم والأسماء؟! أترانا نغادرها إلى خليجنا العربي وقد اسودّ ماؤه وتوقّفت طيوره عن الغناء! فاحترقت مساحات الحلم فيه بوطن يتسع للجميع ويتحدّث بلغة القرآن! ضاع منا البحر! فما عادت تُجدينا السفن وصارت تشدّنا إلى قاعها الأرض، فتتمسي -رغم وجودنا فيها- منّا خلاء!

 

لا، لن تتوقّف في اليمن أو ليبيا، فنزيفهما سيصل إليك حيث كنت! وسيترنّح التاريخ بين يديك رغما عنك، لكنه سيصفع طمأنينة روحك وأنت ترى عدوّك يتخطّف ما ظننتَ أنه آمنٌ لديك..

 

أيّها العربي! مشرق الأرض ينزف من كل الشقوق، ومغربها منهَك بيوميات القهر والهجرة! أيها العربي! ما عاد لديك ما تراهن عليه، ما عاد لك وطن عربي! قصاصاتٍ من ورق وزّعوها على كل الخرائط صرت! ما عاد صوتك يصل بالتكبير إلى كل المآذن، فأين ستُعلن مِن عُزلتك النفير؟!

لستُ بالمتشائمة حين أصف واقعنا كما أراه، وكما نعيشه! ولا أُفْرِط في التفاؤل حين أقول إن تاريخنا في وقت ما حمل لنا ما هو أسوأ وامتلأت صفحاتنا بالسواد!.. أُريق دمنا وذُبحت كرامتنا واستبيحت كلّ حرماتنا، حتى جاء على مسرانا وقت جعله الظلّام إسطبلا لخيلهم! وبالغوا في ظلمهم وجورهم، وما تحرّكت في العروق الدماء، غير أنّ لله سننا في الأرض! لا يفتح القدسَ إلا قلوب تُصدّق الوعد وتؤمن بمدد السماء.. يميز الله الخبيث من الطيّب، واليومَ يفضح الله بتدبيره الأدعياء! يراكمُ بحكمته أهل الخبث في خندق واحد ويُطهّر القلة التي ستحمل سيف هذا النصر الذي ننتظر، لا فجر إلّا وعتمة حالكة تسبقه! ليتجلّى بالنور نهارُه، ويشتد على صفحة الأرض الضياء..

 

فأنا حين أصف لقلمي حال أمتنا لا أزرع روحي باليأس، بل تشتدُّ في العتمة يقظتي! ليقيني بأنّ الفجر بات على مقربة وبأنّ وعد الله آتٍ لا يُعجزه شيء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.