شعار قسم مدونات

"القدس عاصمة لإسرائيل".. كيف يهز ترمب أسس النظام الدولي؟

مدونات - ترمب

يمثل قرار الولايات المتحدة الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي حدثاً غير مسبوق ويحمل في طياته تداعيات ستكون لها نتائج كارثية على بنية النظام الدولي الحالي. فقد قام النظام الدولي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، على جملة من المبادئ كانت الولايات المتحدة هي الراعي والضامن الرئيس لها؛ ومن ضمن هذه المبادئ عدم الاعتداء أو التهديد بالاعتداء على أراضي الغير تحت أي ظرف كان، مراعاةً لمبدأ السيادة الوطنية التي يتوجب على الكيانات السياسية في النظام الدولي الالتزام بها؛ بمعنى أن الاعتداء بالاحتلال قد أُسْقِطَ من كونه أداة من الأدوات التي تستخدمها الدول ضد بعضها البعض ضمن النظام الدولي الذي تشكل بعيد انتهاء حقبة الاستعمار وأرست قواعده الولايات المتحدة وعصبة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.

لقد سعت الولايات المتحدة، وعلى مدار أكثر من سبعة عقود، إلى ترسيخ مبادئ هذا النظام من خلال العمل على دمج القوى الدولية كافة من أجل اللعب وفق قواعد هذا النظام والامتناع عن تحديه. وقد بدا أن الولايات المتحدة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفها هذا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي كان يعدّ التهديد الأبرز والأقوى للنظام الغربي الرأسمالي.

 

الولايات المتحدة بهذا القرار
الولايات المتحدة بهذا القرار "الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل" تتحول من موقع الحامي للنظام الدولي والراعي لمبادئه لموقع المهدد له ولبقائه، ما من شأنه أن يحفز الدول الأخرى على زيادة الاعتماد على الذات لحماية أمنها ومصالحها
 
فمنذ التسعينيات أصبح الترويج للنظام الدولي الجديد سيد المقام وبات الاعتداء على مبادئه يستوجب من واشنطن الرد الحاسم عبر جملة من الآليات تترواح بين التحرك العسكري المباشر، والاحتواء السياسي والعقوبات الاقتصادية. وفي هذا السياق جاء التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لمعاقبة العراق على إثر احتلاله للكويت في 1991 إبان حكم الرئيس صدام حسين.

كما سعت الولايات المتحدة إلى معاقبة "الدول المارقة" التي لم تتقبل فكرة الانضمام إلى النظام الدولي الأمريكي، سواء من خلال العمل العسكري المباشر (العراق) أو من خلال الحصار والمقاطعة الاقتصادية (إيران، وكوريا الشمالية) حتى أن روسيا الاتحادية لم تسلم من المعاقبة على تحديها الإرادة الدولية الأمريكية عندما اعتدت عسكريا على جورجيا في 2008 إثر أزمة إقليم أبخاسيا، وضم جزيرة القرم بعد ذلك في 2014. 

لقد كان الاستثناء الوحيد -ربما- من سياسة الولايات المتحدة العقابية هو إسرائيل واحتلالها للأراضي العربية، إذ لم تتخذ واشنطن أي إجراءات عقابية تذكر ضد إسرائيل من أجل إجبارها على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في 1967 بالرغم من عدم اعتراف واشنطن بالسيادة الإسرائيلية على هذه الأراضي. فقد بقيت الولايات المتحدة منسجمة مع الموقف الدولي، الذي طالب إسرائيل عبر الكثير من القرارات الدولية بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة حتى حدود 1967.
 

هناك الكثير من الأزمات الدولية التي تقوم على أسس قومية وأخرى حدودية بين العديد من الدول التي يمكن أن تتحول إلى حروب كبرى تهدد السلم العالمي

أما الآن فقد اختلف الأمر كثيراً؛ فمع قرار ترمب الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل فإنه يضع الولايات المتحدة في مواجهة النظام الدولي الذي أنشأته وحاربت على مدار عقود طويلة لأجل المحافظة عليه وحمايته من الانهيار، فالولايات المتحدة تمنح الاحتلال الشرعية التي لا يستحقها وفق جميع المبادئ والأعراف الدولية؛ وبذلك يكون الرئيس ترمب قد أحدث تحولا جذرياً ليس في سياسة الولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي على وجه التحديد، بل يكون بذلك قد أحدث تحولا جذرياً في نظر الولايات المتحدة للنظام الدولي ولمكانتها العالمية، في تَوَجُهٍ من شأنه أن يعزز من مسلسل انهيار القيم و المبادئ الأمريكية، والذي بدأ بكيفية ملفتة مع الغزو الأمريكي للعراق في 2003 وكذبة أسلحة الدمار الشامل. 

إن الولايات المتحدة بهذا القرار تتحول من موقع الحامي للنظام الدولي والراعي لمبادئه إلى موقع المهدد له ولبقائه، ما من شأنه أن يحفز الدول الأخرى داخل هذا النظام -الذي يتحول تدريجياً إلى شكل من أشكال اللانظام- على زيادة الاعتماد على الذات لحماية أمنها ومصالحها حتى ولو تطلب الأمر اللجوء إلى الخيار العسكري باحتلال أراضي الخصم. إن الولايات المتحدة بخطوتها هذه، التي تشرعن فيها الاحتلال، إنما تضع نهاية لمرحلة دامت قرابة السبعة عقود من عالم خالٍ من الاستعمار لتبدأ مرحلة جديدة ربما يعود فيها الاستعمار من جديد ليشكل أداة من أدوات السياسة الخارجية للدول.

 

والأمر الذي يبعث على القلق هو أن هناك الكثير من الأزمات الدولية التي تقوم على أسس قومية وأخرى حدودية بين العديد من الدول التي يمكن أن تتحول إلى حروب كبرى تهدد السلم العالمي، فهناك المطالب القومية الصينية في تايوان، وأزمة كوريا الشمالية النووية، والمطامع الروسية في الجمهوريات السوفيتية السابقة، خصوصاً تلك التي تقع في حوض بحر البلطيق. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.