شعار قسم مدونات

هل يصلح العطار ما أفسد القهر؟

Blogs- palestien man

هل تملكون وطنا؟ قد يبدو هذا سؤالا ساذجا للوهلة الأولى! ولكن ليس الأمر كذلك! فوطن الإنسان ليس الخانة التي تكتب فيها البلديّة جنسيّته، ولا أوراقا ثبوتية ينالُها منحة من الحكومة ليصير بها إنسانا، ولا معارك أجداده التي ترويها الجدّات في سهراتهن، ولا صور القادة التي تغطي سماء مدينته وجدرانها، ولا تراثا ولا أغاني وطنية.. قبل ولادة الدولة، بمفهومها الحديث، لم يكن للجنسيّة معنى، بل لم يكن لها وجود، لم يكن جدّك الثاني أو الثالث على أبعد تقدير يعرف معنى الجنسيّة، فهل كان أجدادنا بلا وطن!
 
"وطن الإنسان حيث يجد نفسه" وإن المواطن المقهور لا وطن له، رغم أنف البلديّة وأوراقها، ورغم حلاوة الجدّات وحكاياتهنّ! إن الإنسان في منطقتنا المنكوبة "من محيطها إلى خليجها" مرّ، منذ عقود ليست قصيرة، بماكينة محكَمة الصنع والإدارة للتدجين، ماكينة الظلم والقهر الذي جعلت منه جثة -بنسبة مرتفعة بلا عقل- تفعل ما يراد لها، تقول ما أفرغته الآلة الحاكمة في وعيه، دون حق التفكير في مشروعية هذا العمل، بل دون حق التفكير مطلقا، الأنظمة هي التي شكلت وعي المنطقة، هي التي رسمت خطوطها العريضة وصممت باحترافيّة عالية شكلَ المواطن المناسب لها، مواطن يأكل ويشرب، ولا يعرف غير ما عرّفته الأنظمة وقواميسها، "وكلّ ميسّر لما خلق له!" ولكن "ليس على الخبز وحده يحيا الإنسان" والتفكير عندنا جريمة يعاقب عليها القانون، فهو في أبعاده إعلان صريح عن الاستغناء عن خدمة الحاكم والمصمم والرسام الذي يعرف مصلحة الجميع!

  

كنت في مراهقتي حين توجهت بالسؤال لوالدي: كيف بُنيت الأهرامات؟ قال: بقهر الناس! لم تعجبني إجابته حينذاك، لم تشفِ ظمأ فضولي، نسيتُ الأمر على كل حال، حتى مضتْ الأيام وتقلبت الأحوال، واصطدمت بكلام يقول إن أفلاطون وسقراط ريا أن الأهرامات، وغيرها من معجزات اليوم، كانت وسيلة من الحكّام "لإشغال شعوبهم" إشغالهم بحيث لا يبقى لهم وقت للتفكير بما يكفي في حياتهم، كانوا -وما زالوا- يصنعون صنوفا من المشاغل للشعوب لتنشغل بها عن "الحريّة" التي خُلقوا بها ولها، كان تغييبهم عن الوعي بما يدور حولهم إحدى طرق القهر وممارسة السلطات، يا الله كم نشبه التاريخ! درجة الاستنساخ عجيبة، صادمة، صدمة لا تجعل من نظرية رجوع الزمن ممكنة فحسب، بل بإمكانها خلق نظرية جديدة تقول إن الزمن لا يتحرك أصلا! على الأقل في هذه الرقعة المهترئة من المعمورة!

  
قلت إن الإنسان المقهور لا وقت له، لا حرية له، ولا وطن له.. فالوطن لمن يستحقه، والاستحقاق ليس الجدارة بل الحرية، والناظر إلى حال الناس اليوم في عالمنا يرى بوضوح حجم التخلف الذي نعيش فيه، حجم القهر الذي يعمّ الجميع بسواده، حجم المأساة والتأخر التي نرزح فيه، إلى درجة أننا لا نتصور، بعقلانية، إمكانية الخروج من هذا الوضع! أصبحت مقارنة الإنسان في عالمنا العربي بنظيره الإنسان في مكان محترم مقابل من الرقعة، شيئا يشبه السخرية تقريبا، هذا الحد لم يأت عبثا، بل هو إحباط وخذلان وضِعَة تناسلت بين الأجيال حتى وصلت إلى حدود السخرية من فكرة أن يكون الإنسان واحدا ومساويا لغيره تماما ويمكنه حتى أن ينافسه ويكون أفضل منه!

  

وطنك هو الذي لا تفكر فيه كيف تؤمّن قوت يومك، ولا كيف تؤمّن حياة كريمة لأطفالك ولا تفكر في عقوبة الحديث مع أصدقائك حول قرار حكوميّ لم يعجبك!
وطنك هو الذي لا تفكر فيه كيف تؤمّن قوت يومك، ولا كيف تؤمّن حياة كريمة لأطفالك ولا تفكر في عقوبة الحديث مع أصدقائك حول قرار حكوميّ لم يعجبك!
 

تغرينا فكرة الرجوع إلى الماضي -رغم استحالتها- أكثر بكثير من التفكير في المستقبل -رغم حتميّتها- وهذا أخطر مضاعفات القهر، فأصبحنا نرى من يريد الخلاص معن مشاكل هي في الأصل صنيعة أنظمة فاسدة، يريد الرجوع بالزمن إلى الوراء عن طريق صناعة أشكال حكم مشابهة لما فات، أو تأييد حركات وانقلابات عفا عنها الزمن، لكنّها الأقرب إلى حنينه، الذي لم يستطع تصور حياته بغير وجودها! هذا الإنسان المقهور المحروم حتى من حق الحلم بغدٍ أفضل هو صنيعة عمل طويل مضنٍ قامت به دولة عميقة عمق الوجع! فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يكون مواطنا؟ هو لا يملك وطنه أصلا، لا يملك أن يعيش فيه بحرية، أن يشارك في بنائه سياسيا واقتصاديا بحرية، ألا يكون مضطرا إلى التفكير في الماضي كطوق نجاة مستحيل، لكنه غريق يستنجد بقشة الحنين.

  

يميل الإنسان المقهور إلى نظريات الاستقرار وتسيطر عليه أدبيات القهر، مثل ترك الخبز لخبّازيه والنفور من السياسة والهرب من المواضيع الحساسة، حتى لا يكاد يخلو نقاش من كلمة "هذه أمور أكبر منا، نحن لا نفهمها" دون محاولة التفكير حتى في لمَ هي أكبر منا؟ ولمَ لا نفهمها! والحقيقة أنه غريق في خوفه، في نمط عاش وترعرع عليه ويخشى من أن ينهار الوضع فيجد نفسه في العراء وجها لوجه مع الحقيقة، ولا يعلم أن التاريخ الذي يراه ملاذ الوجع، في أغلبه صنيعة الأنظمة، والمستقبل المُرعب مهما هربنا منه فإنه آتٍ! فكيف للمقهور أن يصنع وطنا؟ فضلا عن أن يكون له وطن! وطنك هو الذي لا تفكر فيه كيف تؤمّن قوت يومك ولا كيف تؤمن حياة كريمة لأطفالك ولا تفكر في عقوبة الحديث مع أصدقائك حول قرار حكوميّ لم يعجبك!

  
إن القهر الذي زرعته الحكومات والأنظمة القمعية المتعاقبة في نفوس الناس لن يكون من السهل علاجه، ولن يزول بين ليلة وضحاها، إن الإنسان في أوطاننا فاقد لكينونته، فاقد لانتمائه، فاقد للكثير من تفاصيل إنسانيّته، يمشي في هذه الحياة على غير هدىً، يرى العالم من حوله ويبدي إعجابه بأشياء وأشياء، يعجبه تطور الشعوب ويروي القصص مع الدهشة عن حرية الكلمة، صناعات وإبداعات، وغيرها، لكنه فاقد لقدرة الحلم أن يكون مثله، يراها عيانا ويرويها خيالا، هكذا تشكّل وعيه، فكيف يكون للعاطلين عن الحلم وطن.. لا يستطيع الحلم بوطن يعيش فيه كريما يساهم فيه دون أن يشعر بالحواجز بين المواطن والحكومة، يعني أن يكون هو الوطن، هو الحكومة، بلا خوف، بلا قهر! ولكن هل يصلح العطار ما أفسد القهرُ؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.