شعار قسم مدونات

المواطنة الفرنسية.. ومغالطات مهند ملك

مدونات - فرنسا مخيم علم

(رد على تدوينة الدكتور مهند ملك)

 

قرأت مدونة صديقي الشخصي الدكتور مهند ملك، والذي يشاطرني العديد من الأفكار والأحلام والطروحات المختلفة وفاجأتني حقيقةً مدونته حول كيف جعلت فرنسا منه مواطناً.

 
عزيزي مهند، أتساءل هل قمت عند كتابتك مدونتك عن فرنسا أرض الأحلام التي تحبها بالتفكير ولو لحظة، بأكثر من مليون شهيد جزائري قامت فرنسا "الحرة" بقتلهم والتشنيع بجثثهم؟ ربما كانت فترة استعمارية ولكن وبعد أكثر من أربعين عاماً لم تستطع فرنسا "العلمانية، الحرة" حتى الآن أن تعتذر للجزائر عن الفظائع الرهيبة التي قامت بها؟ هل تعتقد حقاً أن هذا الأمر فات السياسيين الفرنسيين المتعاقبين من القائد الفذ "ديغول" حتى أحد أمثلتك السياسية كما أعرف "ماكرون" الذي وعد بالاعتذار ولكنه لم يقدم عليه حتى الآن.

 
عزيزي مهند، لنفترض أن موضوع الحقبة الاستعمارية أمر خارج عن العلمانية الديمقراطية، وخارج عن الألوان الزاهية في الطرقات والمقاهي والمطاعم التي يسهر بها الناس حتى الصباح. هل فكرت يوماً بالذهاب إلى حي سان دوني في باريس، أو الأحياء العربية الأخرى هناك؟ تضم ضواحي أغلب المدن الفرنسية خليطاً من أبناء المهاجرين ذوي الأصول المختلفة، معظمهم من أصول عربية وتحديداً من بلدان المغرب العربي إضافة إلى الأصول الأفريقية وغيرها. ومع وجود أكثر من ستة ملايين نسمة من الجالية المسلمة في فرنسا، وحيث النسبة الكبيرة منهم لا تتوفر على الحق في التصويت في الانتخابات المحلية، تعاني الأحياء الحساسة ذات الكثافة السكانية المهاجرة المسلمة والعربية من تقصير بنيوي وأزمة هوية وشرعية كما جاء في تقرير برلماني خاص. هل هذه هي العلمانية التي تتشدق بها فرنسا الحرة؟  

 
قلت في مقالتك: "كانت تكلفة جامعتي 5 يوروهات في العام الواحد والتأمين الصحي 20 يورو، وبهذه الكلفة المتواضعة تخرّجت في جامعة تُعدّ من أرقى الجامعات على الصعيد العلمي والتعليمي. وما يؤلمني أنه في يومنا هذا أجد أن هناك مَن يتباهى بأن الجامعة السورية مجانية، القوة ليست بمجانتيها، القوة أن تكون مجانية وأن تصارع على قيادة دفة الأبحاث العالمية.."، عزيزي مهند، لا يسعني إنكار حقيقة ضعف المؤسسات العلمية والتعليمية في سوريا وهذا عائد لأسباب كثيرة لسنا بصددها، ولكنّ التساؤل الأجدى هنا هو ما الذي يمنع بلداً كفرنسا بالقوة العلمية الراقية كما تصفها، من تعزيز فرص تعليم ورفع مستوى أبناء المهاجرين في الضواحي التي ذكرتُها أعلاه، وما الذي يدفع بلداً يدفع الملايين على الدراسات والأبحاث لتجاهل أجيالٍ تسقط في هوة الجهل والإهمال وربما التطرف، أيعقل أن أحداً لم يفكر في الاستثمار في تلك الضواحي لإنشاء جيلٍ يوازي بعلمه و"رقيّه" أبناء الأحياء الفرنسية الأخرى. عند قراءتي لمدونتك كاملةً لم أرَ أي إشارة لأي أمر سلبي في فرنسا. من يقرأ ما كتبته يظن أن فرنسا هي جنة الله على الأرض. ألم تر مخيمات اللجوء كاليس؟ أم أن هذا ليس ضمن المناهج العلمانية في جامعات فرنسا ودوائرها الحكومية. ألم تر كيف يتم رمي هؤلاء اللاجئين وملاحقتهم وإعادتهم إلى دولهم التي تأكلها الحروب بسبب ذلك المستعمر نفسه الذي نصب هذا الديكتاتور أو ذاك.

  

 مهاجرون في كاليس فرنسا (رويترز)
 مهاجرون في كاليس فرنسا (رويترز)

  

أعترف لك أنني من أشد الكارهين لنظرية المؤامرة التي ينسجها عربٌ كثيرون في أوروبا، عن كره الغرب لنا وعن خططه لإيقاف تطورنا، حيث أنني كما أنت تعلمت الكثير في ألمانيا، نهلت الكثير من الأفكار والعادات الحميدة والعلم والثقافة التي أوصلتني إلى هنا في أرقى جامعة عالمية، ولكنني في نفس الوقت أتعجب جداً من تصويرك لفرنسا وكأنها جنة عدن، وكأن دوائرها البيروقراطية مداخل محال الأبل ستور في باريس.

 
 
اعترف لك يا صديقي أن ألمانيا كما فرنسا بالنسبة لك جعلت مني مواطناً، وعلمتني الصواب من الخطأ، وعلمتني احترام الرأي، وعلمتني الكثير مما لم تعلمه لي بلدي الأم سوريا، ولكنها علمتني أيضا أن أميز ما بين الحقيقة والخيال، أن أرى أي أمر من كافة جوانبه. أعترف طبعاً أن ألمانيا قامت بمساعدة اللاجئين، ولكن عليّ أن أعترف بالمقابل بأن هنالك الآن عشرات الآلاف من اللاجئين المحرومين من حقهم في لمِّ شمل عائلاتهم -وبينهم آلاف القاصرين- رغم أن هذا من أبسط حقوق اللاجئين حسب اتفاقية جنيف.

 
  

ما قمت بكتابته كان الشكل الجميل لفرنسا ولعلمانيتها ولانفتاحها. لكنك للأسف أهملت الطرف الآخر من المعادلة وفشلت كعالم وباحث في مكافأة المعادلة بين الإيجابيات والسلبيات

وهنا علي أنا وأنت وأي شخص درسَ وعاشَ في هذه البلاد أن نقول كما في المثل الشعبي السوري "قول للأعور أعور بعينك" ولكني للأسف فوجئتُ بتدوينتك التي تبجل محاسن فرنسا دون انتقاد ما فيها من سلبيات. وضعت للأسف الأمثلة الإيجابية فقط وهذا حسن ولكنك تغاضيت عن الأمثلة السلبية المنتشرة أيضا في فرنسا نفسها ونراها بعيننا كل يوم ضد اليهود وضد الكاثوليك في بعض الأحيان وضد المسلمين أيضا. قصصت لنا عشرات القصص المختلفة عن روعة فرنسا وعن عظمتها ولكنك تغاضيت عن القصص الكثيرة الأخرى التي تراها في شوارعها، تلك القصص التي رأيتها بأم عيني في سان دوني عام ٢٠٠٩ عند زيارتي فرنسا لمدة خمسة أيام، والغريب أنك لم تراها ولم تشر إليها خلال معيشتك في فرنسا أكثر من عشر سنوات وربما أكثر.

 
لم أرك تشير إلى دعم فرنسا "الديمقراطية" لعدد كبير من الديكتاتوريات في العالم وبيعهم الأسلحة لقتل مواطنيهم. لم أرك تشير أبدا إلى استقبال فرنسا أحد أشهر مجرمي الحرب والقتلة والسارقين من دولنا العربية وانت المدافع عن حقوق المستضعفين. لم أرك أبدا تشير إلى العقارات والمباني التي يملكها الكثيرون من دكتاتوري أفريقيا وتجار الماس أم أن المال يخفي صفة الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان عن فرنسا "الحرة" في هذه الحالة؟

 

لقد اكتفيتَ للأسف بعرضِ الأمثلة الإيجابية فقط وهذا حسن، ولكنك تغاضيت عن الأمثلة السلبية المنتشرة أيضاً في فرنسا نفسها، ونراها بأعيننا كل يوم ضد اليهود وضد الكاثوليك في بعض الأحيان وضد المسلمين أيضاً -وهي أمورٌ ينتقدها أي فرنسيٍّ أصيل بطبيعة الحال لأنه كمواطن يدرك تماماً حقوقه بالانتقاد والرفض وغير مطالبٍ بكيل المدائح.

 
  
عزيزي مهند، ما قمت بكتابته كان أمرا رائعا وجميلا والشكل الجميل لفرنسا ولعلمانيتها ولانفتاحها كان أمر مثار إعجابنا جميعا. لكنك للأسف أهملت الطرف الآخر من المعادلة وفشلت كعالم وباحث في مكافأة المعادلة بين الإيجابيات والسلبيات عند دراستك للحالة الفرنسية وحالة المواطنة التي منحت لك من فرنسا نفسها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.