شعار قسم مدونات

رحلة في بحر الذات

blogs تأمل الذات

بسهوةٍ لم أقصدها سمعت أصواتا لعراك غير مفهوم، اقتربت أكثر من تلك الأصوات، وبدأت بالتنصت. في بادئ الأمر لم أفهم مَن المتعاركون، ولا مَن المقصود.

 

فالأول كان يقول: كيف سمح لك دينك الذي تدّعيه أن تفعل ذلك؟

فيجيب الثاني ببرود: إن الله غفورٌ رحيم..

فيرد الأول: ولكنه شديد العقاب كذلك! إن الخداع الذي قمت به لا يرتضيه ديننا ولا أخلاقنا..

فيجيب الثاني: مهما يكن، فإنني خشيت بأن نخرج خاسرين.

فيرد الأول غضبا: عذرٌ أقبح من ذنب! لن أسمح لك بأن تكرر ذلك مرة أخرى، إما تغلبني أو أغلبك..


كان ذلك العراك البسيط بين اثنين لم أدرك تعاركهما إلا بسهوة، والغريب أنهما دائما العراك، ولكني لم أكن أسمعهما! فالأول كان "الأنا العليا" الضمير، والثاني كان عقلي الواهي أو ما يسمى بالعاطفة.

 

العراك السابق يجري بدواخلنا جميعا، ولكنه يحتاج إلى من يتنصت عليه، صحيح أن التنصت هو عمل لا ديني ولا أخلاقي، ولكن هذا التنصت أجزم أنه محمود مادام قد بقي في إطار عراك حواريّ، ولم يُترجم إلى أفعال بقيادة العقل الواهي.. وهذا ما أعنيه بالذات.

أصعب مراحل الغوص بأعماق النفس
أصعب مراحل الغوص بأعماق النفس "البداية"، فانتقالنا من السطح للعمق ليس سهلا؛ حيث يحتاج لفترات طويلة من الممارسة، وإلا فستطفو على سطحه وتحركُك أمواجه بإرادة الرياح
 

لدي طلبٌ بريء أتمنى أن لا ترفضوه.. لمرة واحدة فقط اتركوا لي قيادة غواصتكم في بحر الذات. أعلم أنني لم أبلغ السن القانونية لأحصل على رخصة قيادة غواصة في بحر كهذا، لكن لا بأس، فأنا لن أتوغل في الغوص إلى أعماق هذا البحر؛ حتى إذا ما أخطأت القيادة أتمكن من طلب النجدة من رواد هذا البحر، وكيلا أصل إلى عمق يجذبني إلى قعره فيلتقطني عمق آخر ويجذبني إلى قعره.. كذلك إلى ما لا نهاية، فالذات أعمق الهُوّات، لذلك ستكون رحلتنا قصيرة وهادئة، خذوا أماكنكم ولننطلق..

إن أصعب مراحل الغوص هنا هي البداية، انتقالنا من على سطح هذا البحر إلى عمقه ليس بالسهولة التي تخالها؛ فهي تحتاج إلى فترات زمنية طويلة من الممارسة كي تتمكن من الدخول إليه، وإلا فإنك ستطفو على سطحه وتحركُك أمواجه بإرادة الرياح، وإياك أن تكون الرياح هي من تدير حركتك!

يجب أن تتمكّن من الغوص فيه، ومن أجل ذلك واجه تلك الأوهام السيئة التي تعيقك، تخلى عنها وأخبرها بأنك لن تعود قبل أن تتمكن من هذه المرحلة.. اجتزها؛ فهناك ما ينتظرك من روعة هذه الحياة وقيمتها في العمق..

نقدُ الذاتِ سلاحٌ فتاك يؤدي بك إلى أعماق عامرة من بحر ذاتك. وهذا البحر لا يتيح لك خيار الغوص في أعماقه إلا باتجاهين؛ إما قاعٌ خيّر في المطلق، وإما هاوية إلى الدَرْك الأسفل من جحيمه

أحسنت! أترى تلك الأسماك المفترسة والحيتان الضخمة؟ هذه هي أهواء النفس، أينما تلفت تجدها محيطة بك وتراقبك بِشَرَهٍ تنتظر ما يمكِّنها من الهجوم على ذاتك، وإن لم تحصن هذه الذات فإنك ستقع غريق الأهواء في القعر المظلم، وهذا ما يؤول إلى غضب ذاتك، ذلك الغضب الذي نعوذ بالله منه. وتحصين ذاتك من تلك الأهواء يكون من عدة صنارات، أهمها ذِكرُه جلّ جلاله وتعظيم قدره وشأنه، وأيضا من خلال تأنيبك لتلك السمكة المفترسة التي مكَّنتها من نفسك واصطيادها إلى خارج البحر؛ حتى تخشى شبيهاتها منك.. انقُدها، أي انقُد ذاتك! إن لم تنتقدها فإن تلك السمكة -والأخريات- ستستبيح تلك الذات، حتى تبدأ الحيتان الضخمة بالهجوم عليك.. أنت من مكنتهم من نفسك!

نقدُ الذاتِ سلاحٌ فتاك يؤدي بك إلى أعماق عامرة من هذا البحر. أجل، فهذا البحر لا يتيح لك خيار الغوص في أعماقه إلا باتجاهين؛ إما قاعٌ خيّر في المطلق، وإما هاوية إلى الدَرْك الأسفل من جحيمه.. ولكن احذر، احذر من تلك الأسماك، فإنها وُضِعَت لتأخذك إلى الهاوية..

انظر إلى أعماق هذا البحر، قوتك فيه من سعادتك وثباتك على القاع العامر المُراد في شتى أمور حياتك.. فوق على اليابسة، فبهذه القوة أنت قادر على إقرار ما تريد، دون حيرة ودون شيطان مريد، لا يهم إن أخطأت.. لن تهاجمك الأسماك؛ فهي تعلم محدودية ذلك الخطأ بالنسبة لك؛ فأنت الآن إمبراطور ذاتك.. أصبحت إمبراطورا عقِبَ بذلٍ ونقدٍ وتحصين وعفة، أيُحاسب الإمبراطور إذا أخطأ؟ ولكن يجب أن تصحو على هذا الخطأ، ولا يهم حتى إن كنت تخالل رفقاء سوء أو رفقاء خير؛ ما يهم هو صلتك مع ذاتك؛ تلك الذات التي تنبثق منها علاقتك مع ربك؛ اعتزل لهذا الرب، وأطل الخلوة به.. لوحدك، وكن واثقا بأن صناعتك ستكون من تلك الخلوة.

حديثك مع ذاتك هو ذلك الحديث الذي لا إسهاب فيه ولا إطناب مهما أطلت! وهو الحديث الذي يدخلك إلى الذات ويُفهِمك ماهيتها.. ويعلمك أن ذواتنا الخيّرة هي متعرضة دائما للانقلاب المستمر من ذواتنا السيئة. ابدأ من عمق الذات، واحرص عليها ولا تخرج منها؛ فالأصداء الخارجية تُلمَّع من دواخلنا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.