شعار قسم مدونات

جُحا يَحكُم المدينة

blogs الانتخابات الجزائرية

بعدَ نجاحٍ أحد الفُكاهيين الشباب في افتكاكِ مَقعَدٍ في البرلمان الجديد، استفاقَ الجميع عشية الانتخابات البلدية على خبر ترشَحٍ مُفترَض لأحد المُمثلين الكوميديين المَعروفين والذي اشتهرَ بدوره الذي يتقمّصُ فيه شخصية جُحا في مُسلسل مليئ بالفكاهة والمقالب، كانَ يُعرض في شهر رمضان لسنواتٍ عديدة، ولا أجدُ سببا معقولا للضجة التي أثارها الخبر بحكم أنه مُواطن وله حقوقه الدستورية المكفولة، إلا أن الشعبَ قد تحصّل أخيرا على الدليلِ القاطع الذي يثبتُ له دونما مجالٍ للإنكار، بأن الانتخابات في بلادنا محض مقطعٍ هزلي سكاتش بنفس الوجوه بأدوار مختلفة تطلّ علينا كل خمس سنوات، كما يطلُّ علينا فلم الرسالة ليلةَ كل عيدٍ ديني.

 

إذن فالانتخابات ما دامت شكليةً خاوية من المَضمون، تبقى كأي مسلسل فكاهي يحتاجُ إلى حبكة كوميدية، وهو ما تتوفر عليه انتخاباتنا بقدرٍ يسمح لـ نتفليكس بإنتاجِ سلسلةٍ بعشرين مَوسِما في كل موسم خمسون حلقة، كل حلقة منها تستغرقُ خمسَ ساعات، كما تستغرقُ خطابات المترشحين المليئة بالأخطاء والتناقضات والشحّ اللغوي والإفلاس السياسي..

 

خرجَ علينا أحد المترشحين ذاتَ انتخاباتٍ رئاسية مُعلنا عن دعمِه المُطلَق لرئيسِ الجمهورية الذي كان مترشحا بدوره، فلم يفهم الشعبُ قصّةَ هذا المترشح الذي يدعو الناسَ لانتخابِ خصمه

إن المُراقب للحملة الانتخابية ثم الانتخابات بحد ذاتها، الذي يشاهدُ أساليبَ الأحزاب وسُبل الإقناع التي ينتهجها المترشحون ولغة الخشب التي يستعملونها وحركات التهريج والصبيانية التي يظهرونها، يبقى مندهشا من الكمّ الهائل للطرائف التي ستصادفه، حتى أن ابنَ الجوزي لو كان بيننا لألّفَ في ذلك كتابا وأسماه "أخبار الحمقى والمُترشّحِين". يَجمَعُ فيه أخبارهم وحماقاتهم، كتابٌ كان سيلقى رواجا مُنقطِع النظير لا يضرّه انتقادُ البعض واحتجاجهم عليه بأنه تعميمٌ جائر، فالواقع يتحدّثُ عن نفسه والاستثناءُ يُحفَظُ ولا يُقاسُ عليه، وما نراه وهو الغالب والسواد الأعظم يَحجبُ مآثرَ وحنكةَ واستحقاقَ الأقلية التي تحترمُ الشعب وتترشح وتقترحُ كفاءتها لخدمتِه ورعايةِ مَصالِحِه.. ومن تلكَ الطرائِف:

 

مترشحون لا ينتخبون أنفسهم:

خرجَ علينا أحد المترشحين ذاتَ انتخاباتٍ رئاسية مُعلنا عن دعمِه المُطلَق لرئيسِ الجمهورية الذي كان مترشحا بدوره، فلم يفهم الشعبُ قصّةَ هذا المترشح الذي يدعو الناسَ لانتخابِ خصمه الذي يُفترض به مُنافَسَتُه في نيل رئاسةِ الجمهورية. كما أن مُترشّحا آخر لنفسِ المنصب سأله أحد الصحفيين عن قدرة الرئيس على مزاولة مهامه، فأجابه قائلا: "نعم الرئيسُ قادرٌ على إضافة عهدة رابعة وخامسة وهو محبوب لدى المواطنين، وإنجازاته في سبيلِ مصلحة الشعب تتحدث عنه"، فعاد الشعب ليتساءلَ مُجدّدا: ما سببُ ترشحك ضده إذن، هل أنتَ ضد مَصلحةِ الشعب؟

 

التزوير الذكي:

ممّا يُميز الانتخابات عندنا أن الذين يقومون بالتزوير يقومون به بإتقانٍ مُذهل، يجعلنا مَضربا للمثل في الدول الأكثر إتقانا للتزوير، بل يُذكرني هؤلاء بـ نِيل كافري في مُسلسلِ وايت كُولَر ، الذي يجيد تقليد اللوحات الفنية بدقة متناهية تجعلُ من تمييزها مُتعذرا حتى على أصحابِها، ما يُعينه في التخطيطِ لسرقة اللوحاتِ الأصلية بسلاسَة ويُسر.

 

كما يفعلُ أصحابنا مع أصوات المنتخِبين، حتى أن أحدَ المترشحين في مدينتي أحضرَ الكثير من أعضاءِ عائلته ليشاركوه اللحظات التاريخية لفرز الأصوات التي كان مُوقنا بأنها ستؤدي إلى فوزه، فلما فرغَ المراقبون من الفرز وإعلان أسماء الفائزين، ولم يتحصّل صديقنا على أي صَوتٍ يُذكر، استشاطَ غضبا وزمجر وصرخ بأعلى صوته: سأصدّق بأن أصدقائي خذلوني ولم يختاروني وهو الأمرُ المستحيل، وسأتقبل على مضَض أن تخدَعني عائلتي وهو المُحال بعينه، وسأرضخُ أخيرا لِكونِ زوجتي لم تنتخبني وهذا ضَربٌ من الخيال، سأقبل بكل ذلك وأفترضُ أنه حقيقي وصحيح، ولكن أينَ صوتي الذي انتخبتُ به نفسي؟

 

من المؤسِفِ للغاية أن الرجل لم يَستوعِب درجةَ الإتقان التي بلغتها عملية التزوير عندنا، لأنها تنطلق من قاعدة أن الله يُحبّ إذ عملَ أحدكم عملا أن يتقنه، فلم يستطع الإخوة المُضطَلِعُون بالمهمة أن يتركوا النتيجة مُشوَّهَة، أو أن يتركوا تلكَ الأصوات تائهةً بعيدةً عن الأب الحنون الذي يعتني بها ويدفعُ أكثر.

 

الانتخابات المحلية بالجزائر (وكالة الأنباء الأوروبية)
الانتخابات المحلية بالجزائر (وكالة الأنباء الأوروبية)


الأموات الأحياء:

من المعلومِ لدى الجميع أن الجزائري يتميزُ بوطنية شديدة وانتماءٍ قوي للوطن، جعلَ الشعب يضحي بملايين الأرواح لأجل الاستقلال، وحوّلَ شعبنا المُسالم الأعزل إلى كتائب متوحشة أرّقَت نوم المحتل فطرَدَت مَن طرَدَت من جنودِه وأرسلَت البقية إلى العالم الآخر، غير أنها لم تتوقف عند الإرسال إلى ذلك العالم، بل بلغت بها الغيرة على الوطن أن ترسل منهُ أفواجا من الموتى ليقوموا بواجب الانتخاب لحفظ استقرارِ البلاد ودفع عجلة التنمية.

 

ففي كثيرٍ من الأحيان يجد الابن الذاهب للانتخاب والده قد أدلى بصوته في وقتٍ باكر من ذلك اليوم، ثم يكاد يصدّق تلك الأمنية الحلوة لولا أن أباه قد ماتَ قبل عشرين سنة وأنه قد دفنهُ بيده تلك التي تقومُ بالتصويت، هؤلاء الموتى الأحياء الذين يتم اكتشاف تصويتهم إنما يُكتَشفون بسبب تشابه الأسماءِ فقط، أما الآلافُ الآخرون الذين لا تتشابه أسماءهم مع أولادِهم، فقد آثروا بكل تواضعٍ وتجرّد أن يقوموا بالعملية سِرا بعيدا عن الأنظار حتى يتم اكتشافهم يوما ما.

 

ثورة بلا أبطال:

في إحدى أكبَرِ الحمَلات الانتخابية حماسَةً في تاريخ مدينتنا، كان أحد المُترشحين يحتفظ لخصومه في كل مرة بطرق إبداعية تشحذُ هِمَمَ الموالين له وتثبّط عزائمَ المناوئين، فقرّر في إحدى تجمعاته الحاشدة أن يُثيرَ حَماسة الحضور، فألقى فيهم كلمةً قويّة عن التغيير والإصلاح وأنه بأصواتهم يستطيع رفع شأنِ مدينتهم، وأن عددهم الكبير الذي يراه في القاعة يؤكد له أن الفوز من نصيبه، ثم طلبَ منهم سَحْبَ بطاقاتِ الانتخاب ورفعها إلى الأعلى كإشارةٍ للتحدي والاستعداد ليوم الانتخاب، فلم ترتفع إلا بطاقةٌ أو بطاقتان. لسوء حظ الرجل لم يكن في أنصاره مِن أحدٍ يمتلك بطاقة انتخاب، لكنهم بالتأكيد لن يبخلوا عليه بدعواتهم يومَ العرس الوطني.

 

المنصب للكفاءة:

أدركتُ ذات يوم أنني مُتعصّب لرأيي وأنني أفتقدُ للكثير من الموضوعية، فكيفَ أتهم أغلبَ المترشحين بعدم الأهلية وفقدان الكفاءة، في حين أنني وبمساعدة أحد أصدقائي اكتشفتُ أنني مخطئ للغاية، فقد كانَ صديقي الوفي لأحد أحزاب السلطة كلما قرأ على مسمَعي اسمَ مُتصدّرٍ لقائمة من القوائم أرفقها بسلسلةٍ طويلة من الشهادات والوظائف المُحتَرمَة، فقررتُ أن أتحرى حول أحدهم على أمل إثبات أن ما يقوله صديقي محضُ دعايةٍ انتخابية، لكنني للأسف وجدتني مخطئا فقد اكتشفتُ أن لدى أحد المترشحين المعروفين ثلاث شهاداتٍ عليا أجبرتني على التزام الصمت ورفع القبّعة له، فبحوزته شهادةُ ميلاد وشهادةٌ ملكيةٍ للسكن وشهادةٌ طبية للأمراضِ الصدرية.

 

زوجة سياسية:
الذي يُكافح بشتى الوسائل في حملة حزبه الانتخابية مهما كلفه ذلك من إلقاء الشتائم والإهانات والاتهامات الخطيرة لهزيمةِ خصمِه، حتى إذا فازَ هذا الخصم وجدتَ صاحِبنا أولَّ المُحتفلين عِنده

مما يُميّز مجتمعنا أنه قد أعطى للمرأة الكثير من الحقوق التي تفتقدها في عدة دول مجاورة، ومنها أن للمرأة كامل الحق في الانتماء لأي فصيلٍ سياسي، وأن تُناضل في صفوفه وأن تُعارض زوجها في توجهاته السياسية، ولكن إحداهن قرّرت أن تناضل لأجل كل الأحزاب التي تنافسُ حزب زوجها، مُنطلقةً من شعورٍ عميق بالمسؤولية يدفعها للوقوف عند باب المنزل لتعترضَ طريق الوفود التي تهمّ بمغادرة البيت، بعد ساعاتٍ قضاها زوجا في إقناعهم تكلّلت أخيرا بحيازة دعمهم له، لتثنيهم عن ذلك وتهدّدهم في حالةِ انتخابه بالويل والثبور، وتختم خطابها همسًا بعبارتها الشهيرة التي أًصبَحَت سلاحا لدى الأحزاب الأخرى أدى لإسقاطِ شريك حياتها: "كيف تنتخبون من فشلَ في إقناع زوجته"، والأكثرُ طرافة أنها عندما سُئلت عن سبب تدميرها لحلم زوجها السياسي، أجابت بأنها لا تُطيق تَردُّدَ الضيوف المتكرر على منزلها، وتخشى أن يُحوّلَ فوزه منزلها إلى مكتب من مكاتب البلدية.

 

الديمقراطية العميقة:

لعلَ من أهم ما تتمتع به الانتخابات عندنا، بغض النظر عن الكَرم المُتدفّق وولائم الكُسكُس وتوزيع اللحم وأكياس الفواكه وشراء الأصوات ببعض الدنانير، وبعيدا عن صديقي الذي رأيتهُ يوزّع منشورات ومُلصقات تدعو لانتخاب حزبٍ ما مُرتديا قميصا يدعو لانتخابِ حزبٍ آخر، وبصرف النظر عن الحسّ السياسي العميق والإيمان الراسخ بالعملية الانتخابية الذي يتيح لأحدهم إذا رُفِض قبوله في الحزب الشيوعي أن ينتقل في نفس اليوم وبكل رومنسية إلى الحزب الليبرالي، وأن يعلن متشرحٌ آخر في قائمة حزبٍ يساري أنه مِن أنصار الإسلام السياسي الذي يناقض بالمناسبة فلسفة وبرنامجَ حزبِه، كل ذلك يبقى مُجرّدَ مواقف بسيطة إذا قورنَ بذلك الذي يُكافح بشتى الوسائل في حملة حزبه الانتخابية مهما كلفه ذلك من إلقاء الشتائم والإهانات والاتهامات الخطيرة لهزيمةِ خصمِه، حتى إذا فازَ هذا الخصم وجدتَ صاحِبنا أولَّ المُحتفلين عِنده بل ويخطفُ الميكرفون من أصحابِ المنصة ليقولَ بكل برودة دم: "وأخيرا اختارَ الشعب الرجل المناسب في المكان المناسب".

 

اسمحوا له بالدخول:

كان في مدينتي رئيسُ بلدية متعلمٌ ومُثقف ورجل أعمالِ أيضا، أذكرُ أنه فاز بالأغلبية، عندما ظفر بمنصب الرئاسة لم يُبدّل لهجَته ولم يتخلى عن وعوده، بل بقي قريبا من هموم الشعب، وكانَ مكتبه يبقى مفتوحا لاستقبال المواطنين من جميع الأعمار والفئات طيلة ساعات اليوم، حتى أنه ذات مرة عندما قيلَ له أن فاكس قد جاء من الولاية، ضربَ مكتبهُ بقبضة يده وقال: "لماذا تتركونه منتظرا إذن، اسمحوا له بالدخول"، وقيلَ أنه عندما تلقى طلبا مكتوبا تطلبُ فيه إحدى الجمعيات ترخيصا بجمعِ التبرعات لغزة قال لنائبِه: "ولماذا لا تأتينا غزّة أو أحد أبنائها لننظر في وضعيتها، هؤلاء يريدون أموال البلدية فقط، دعني منهم".

 

شكرا للمشاهدة، يُعاد بثّه بعد خمس سنوات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.