شعار قسم مدونات

صراع النبوءات.. التحول الكبير

مدونات - جلسة افتتاح الجمعية الوطنية في فرساي هام 1789

"فافهم ذلك واعتبر به، أن غاية العمران هي الحضارة والترف، وأنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم، كالأعمار الطبيعية للحيوانات"

(ابن خلدون، المقدمة)

 
"من الحقائق الثابتة والمقررة، أن لحياة كل شيء دنيوي أجلا محدودا، ولكنّ إكمال السير الذي رسمته السماء لا يكون إلا للأشياء التي لا تقبل هياكلها التحلل عامة، وإنما تحافظ على نفسها في هيئة منظمة دون أي تبدل"

(مكيافلي، المطارحات)

 
حقيقةٌ كونية وسنَّة قائمة، هي تلك الفكرةُ القائلة بكون كل شيء مصيره التفسخ والانحلال، فلا مطمع لأي شيء في أن يدوم على حاله أبد الدهر، إن هذه الحقيقة كما هي ماثلة في الأجسام الطبيعية، ماثلةٌ في الأجسام السياسية أيضا، وقد وقف ابن خلدون عند هذه الحقيقة وقفة الخاشع المعتبر في مقدمته، ووصفها وصف الكاشف عنها المسلّم بها، ووقف عندها مكيافلي من بعده في مطارحاته وقفة المتأمل الحاذق الذي يبغي من خلال اعترافه بها البحثَ في سبل علاجها وتأخيرها.

 
لم يكن كلا الرجلين أول من وقف على هذه الحقيقة ولاحظها، فقد سبقهما إلى النظر فيها فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أفلاطون، كان مبتغى أفلاطون حين نظر في هذا الأمر هو البحثَ في إمكانية تحطيم هذه الحتمية التاريخية، وخرج باعتقاد مفاده أنه يمكن تحطيم دورة الانحلال والتفسخ بواسطة القوانين الأخلاقية المدعّمة بالعقل الإنساني، وعلى هذا الإيمان قدّم أطروحته في "الجمهورية"، تلك المدينة المثالية التي ينشئها الفكر الإنساني إنشاءً، وقد صممها أفلاطون تصميما عقليا نظريا على هيئة تجعلها لا تنحلُّ ولا تموت. غير أن ابن خلدون -ومن بعده مكيافلي- قررا أن مثل هذه المدينة الخيالية لا يمكن أن تنشأ في التاريخ، وقد طرح ابن خلدون بين يدي هذه الحقيقة قوانينه في القوة والحركة التاريخية وصادق عليها من بعده مكيافلي، وأكد كلاهما على أن الحل لا يكمن في النظر فيما "ينبغي أن يكون" بل "فيما هو كائن".

 
كان مكيافلي أول من تناول آمال أفلاطون وأخضعها لقوانين ابن خلدون في القوة والحركة، وكان أول من حاول نقل مضمار التفكير في مدينة أفلاطون من التفكير الأخلاقي العقلي إلى التفكير التجريبي الواقعي، فبما أن جمهورية أفلاطون عنده محكومة بقوانين التاريخ، فلم تكن لتتجاوز في إمكانية تحققها حالة روما أو حالة إسبارطة، ولهذا سمينا في المقال السابق محاولة مكيافلي بأنها "كبح للدورة الحضارية". غير أن ما حصل بعد مكيافلي كان تحولا كبيرا.

  
التحول الكبير وكسر الدورة الحضارية:

الثورة الفرنسية 1789م (مواقع التواصل)
الثورة الفرنسية 1789م (مواقع التواصل)

 

يقرر قانون الحركة التاريخية الخلدوني أن الاقتصاد المبني على الفكر الإنساني متمثلا بالصناعة والتجارة هو المحرك الأساسي للمجتمع الحضري، على خلاف المجتمع البدوي الذي يكون المحرك له هو العصبيّة المبنية على النوازع الطبيعية "حب التسيد والتغلّب وأخلاق التوحش"، ويبيّن هذا القانون كيف أن الاقتصاد هو ثمرة استقرار الدولة وركون العصبية إلى الفراغ والدعة بعد أن تنعم بثروات الدولة المغلوبة، وهو الأمر الذي يمهّد لانحلال العصبية وضعفها مع استفحال الترف وكثرة التنعّم، وهذا التفاوت بين المجتمعين وحالتيهما يخلق ذلك الفرق الذي يحثُّ الدورةَ الحضارية ويدفعُها.

 
مع قرب نهاية القرن الثامن عشر، كانت أوروبا على موعد مع تحول كبير سيَسمُ تاريخَها، كان شطراهُ ثورتان؛ هما الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، وقد ساهمت هاتان الثورتان في تحول من شأنه أن يعيد النظر في القوى المحركة للتاريخ وقوانين حركتها، وعنوان هذا النظر هو إمكان القضاء على القوى الطبيعية التي وصفها ابن خلدون كمحرك للتاريخ، وقد عزز من الأمل في هذه الإمكانية ما حققته القوة البخارية والسكك الحديدية من تقريب للحدود الجغرافية ومن دفع هائل لعجلة الاقتصاد بتسهيل الإنتاج وفتح الأسواق بالاستعمار، وما تحقق معها من مكتشفات في العالم الجديد وما فيه من ثروات زاخرة، كل هذا ساهم في خلق نزعة شاملة نحو تحصيل الثروة ومراكمتها. فها هنا ازدهار حضاري يتحقق لأمم أوروبا لم يُسبق في التاريخ.

 
وقد ساهمت الثورة الفرنسية بدورها في إذكاء هذا التحول الهام نحو الاقتصاد كمركز للحركة التاريخية، فما فعلته هذه الثورة من القضاء على الإقطاعية، ومن إنهاءٍ لهيمنة الطبقة الأرستقراطية "وهي المرادف للعصبيات في المجتمع الحضري عند ابن خلدون"، وما روجت له من فكرة التنوير التي جعلت العقل مركزا ومعيارا للفعل الإنساني والتاريخي، ورفعت من شأن الفرد وما يريده فوق أي شأن آخر، وجعلت حقوقه التي يثبتها له العقل هي الفيصلَ والحكم، وهي القانون الذي أضحى دينا ينسخ الأديان السماوية، ودستورا ينسخ دساتير الإمبراطوريات. كل هذا ساهم في القضاء على أي صيغة اجتماعية لا يمكن أن تتفق مع هذه النظرة، وكل نزعة بشرية تتعارض مع متطلباتها، فكل ما هو خارج دائرة الاقتصاد والحضارة وأخلاقهما التي أعلى منها فلاسفة التنوير: مظلم، وبربري، وغير عقلاني. فهذا المعيارُ المُعتسفُ الذي أسس له التنوير، سيجعل خيراً كلَّ ما هو داخلٌ في هذ التحول، وشراً كلَّ ما هو خارجٌ عنه، وهو معيار يناقض معيار ابن خلدون ومكيافلي في القول بفضيلة البداوة وخيريَّتها على الحضارة.

 

إن الحالة التي استحدثها التحول الكبير ليست كحالة مكيافلي، الذي كان عمله أشبه بمن يبني سداً منيعا أمام قوة نهر جارف، ثم يُصرِّفُها في شِعاب وقنوات
إن الحالة التي استحدثها التحول الكبير ليست كحالة مكيافلي، الذي كان عمله أشبه بمن يبني سداً منيعا أمام قوة نهر جارف، ثم يُصرِّفُها في شِعاب وقنوات
  

ولذا فقد غزت الحضارةُ -ومحرِّكُها الاقتصاد- البداوةَ، وأعاد الغرب اكتشاف العالم القديم بالغزو الاستعماري للقضاء على قواه التاريخية الطبيعية المحركة له "العصبية"، وإحلال الاقتصاد المبني على الفردانية والعقلانية محلها. إن ما حصل مع الثورتين كان عملية "تمدين" شامل للمجتمعات البدوية، وتفكيك مقصود للعصبيات. وقد أحيى هذا التبديل الشامل أملَ أفلاطون بإمكان تحطيم قانون الانحلال التاريخي، فما دام أن العقل الإنساني هو الذي استحدث الاقتصاد نظاما حاكما وقوة دافعة، وما دام أن هذا النظام يمكن تعميمه على البشرية وإحلاله محل النظام الطبيعي، فإذا يمكن لمن يمتلك زمام هذا النظام ومفاصله أن يكسر الدورات الطبيعية التاريخية، ويُحلَّ محلها نظاما مستقرا نهائيا ينتهي عنده التاريخ الإنساني كما عرَّفه ابن خلدون. إن الطبيعة وقواها التاريخية التي جعلت حلم أفلاطون في جمهورية "عقلية مثالية" استحالة بعيدة، حطمها التحول الكبير وجعل حلمه إمكانا قريبا.

 
إن الحالة التي استحدثها التحول الكبير ليست كحالة مكيافلي، الذي كان عمله أشبه بمن يبني سداً منيعا أمام قوة نهر جارف، ثم يُصرِّفُها في شِعاب وقنوات "والنهر هنا هو العصبية الطبيعية، والسد المبني هو النظم السياسية التي استحدثها للاستفادة من اندفاعها". إن ما حصل بعد التحول الكبير كان أشبه بمن جاء إلى منبع ذلك النهر فسدّه وقطع اندفاعه كليَة، وجعل من بقايا النهر بِركةً آسنة يديرُها العقل ويحرًّكها كيف شاء.

إن التاريخ الإنساني الذي كان ميدان حركته في الطبيعة حيث تصطرع البداوة والحضارة صراعهما الأزلي، سينتقل مع التحول الكبير إلى ميدان الحضارة فقط، وسيكون صراعا يترجم في الأسواق والعملات وتحكمه قوانين الاقتصاد ودوراته.. هكذا أريد له أن يكون.

 
ها هنا فصل مهم من فصول هذه القصة، نبسط الحديث فيه فيما سيأتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.