شعار قسم مدونات

مفكرونا المزيفون.. والثورة

blogs - شباب مصر في الثورة

علام الباحث المولع بالتاريخ في مسرحية "ماما أمريكا" أنهى بحثه عن ضياع الأندلس وعلاقة ذلك بالنظام العالمي الحالي إلا أنه تحول بعدها للبحث في الطريقة التي تم تركيب باب القلعة بها قبل أن ينصحه محمد صبحي بالبحث في الهيئة التي هرب بها أحد المماليك من مذبحة القلعة، طبعا بعد رفض بحث الأندلس.

 

لم يجد ساسة مصر الذين دخلوا المجال العام أيام السادات فرصة لبناء أحزاب سياسية تنافس بجد على السلطة وتبحث في طرق جديدة لإدارة الدولة، فاتجهوا للعمل الطلابي في الجامعات ثم إلى العمل النقابي والخيري كمحاولة لتحريك المشهد، لم يتغير الحال مع مبارك الذي اعتمد نفس سياسة التنفيس حتى تغيرت موازين القوة نسبيا مع ثورة يناير. كثير من رموز تلك المرحلة من نقابيين ونشطاء يحاولون طرح نفس السيناريو للتعامل مع نظام السيسي!

 

لم تكد الأمور تستقر لعبد الناصر ورفاقه في عام 1952 حتى التفت الضابط الطموح إلى منابع الفكر والثقافة في المجتمع. كل حديث لا يخدم المرحلة الجديدة كما يراها الضباط بات غير مرحب به، النقاشات العامة وخطابات النخب كلها باتت تخدم توجه النظام، "اشتراكية ناصر وانفتاح السادات وسلام مبارك وتنميته المزعومة"، وفي ارتفاع هذا الصخب خفتت أصوات فكرية أخرى كانت تُنَظرُ لطرق أخرى للنهوض جمَعتهم سجون ناصر والسادات ومن ثم مبارك، "الإسلاميين منهم والقوميين واليساريين والليبراليين الحقيقيين".

 

رفعت السعيد أيقونة هذه الفكرة -مفكر يساري- لمع نجمه مع بداية الأربعينيات حاصل على الدكتوراه في تاريخ الفكر الشيوعي من ألمانيا حاول أن يناضل من أجل فكرته اصطدم بالنظم الذي اختلف معها في أحد مراحله "السادات"، فحول الرجل "فكره" للتعايش مع النظام القائم والتكسب منه فقبل لعب دور البرلماني في شورى صفوت الشريف ثم ختم حياته وهو يضع كل ما تعلمه تحت أقدام دكتاتور رأسمالي أتى على رأس دبابة. تقديري أن بداية أي مفكر طامح للتغيير ونهايته لن تتغير عن بداية السعيد تلك ولا نهايته طالما ظلت الدبابة سيدة الموقف.

 

محمد رفعت السعيد سياسي يساري (1932-2017م) (مواقع التواصل)
محمد رفعت السعيد سياسي يساري (1932-2017م) (مواقع التواصل)

 

فلا يثمرُ فكرٌ تحت تهديد السلاح، والنظام الذي يصادر الصحف ويأممها ويعتقل الصحفيين والمفكرين ويحرق كتبهم لن يسمح بتطوير الأفكار ولا بإيجاد حلول لمشاكل الناس لأنها تهدد وجوده، هذه الحقيقة التي تبدو بسيطة وبديهية يعاندها كثيرون من عينة "رفعت السعيد" ممن يريدون أن تستمر مصالحهم وامتيازاتهم، ويمارسون سياسة الجري في المكان بدلا من صرف جهدهم لتوفير مناخ تنتقل فيه الأفكار بحرية وانسيابية وتطور، يلومون الفكر الجامد الذي فشل في أن يحسن الواقع تحت وطأة الدبابة! المشكلة في الفكر الجامد الذي فشل في التطور تحت عجلات المدرعات! هكذا يرون. تجديد الخطاب الديني والثورة الفكرية التي يزعم أمثال يوسف زيدان ومن على شاكلته الدعوة إليها ما هي إلا محاولة لتشتيت أي جهد حقيقي لتغيير الواقع!

 

الثورة الفكرية في ظل القمع لن تخدم إلا المستبدين وأي تجديد للخطاب لا يستهدف منح الناس حق الكلام هو تكريس لكتم أصوات معارضي الدكتاتوريين. قديما كان هذا واضحا لا يحتاج إلى مقال فنشأ فقه الاعتزال للحفاظ على الأفكار بدلا من تطويعها لخدمة الحاكم الظالم، ونشأ فقه الهجرة بالأفكار للحفاظ عليها، ونشأ فقه القابض على دينه كالقابض على الجمر، كل هذه الطرق تسير في اتجاه معاكس لاتجاه تطويع الفكر وتسخيره لخدمة الوضع الراهن.

 

الأمة المحتلة والأمة الرازحة تحت الاستبداد بديهي أن ينصرف مفكروها للبحث عن طريق لفتح المجال العام، أما ترك السلطان الذي ينهب المليارات للحديث عن حرمة وضع الحذاء بالمقلوب أمام المساجد وترك الآلاف في الزنازين للتنظير في مدى توافق سياسة الفاتيكان الخارجية مع الحد من انتشار الأسلحة النووية فهذا عبث لا مثيل له!

 

المفكرون يلتفتون للبحث عن طرق الثورة والتغيير لفتح المجال العام وامتلاك الأدوات اللازمة للتغير إذا انغلق المجال العام، وكل مفكر اخترع نظرية أو أهدى البشرية اختراعا سَبَقَهُ آخرون اقتصروا على التفكير في خلق مناخ الحرية لمن يأتي بعدهم الأدباء والفنانون يسبقهم المفكرون والمنظرون، والمفكرون والمنظرون يسبقهم الثوار والمناضلون، والجيل الذي يهرب من النضال والثورة إلى التنظير في الفراغ يُحرمُ أبناؤُه من رفاهية الفن والإبداع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.