شعار قسم مدونات

صراع النبوءات.. ميلاد نظرية المسار

مدونات - تمثال كانط

"إن الفيلسوف المتقشف إيمانويل كانط الذي درج أهالي بلدة كونيجسبيرغ التي يعيش فيها على ضبط مواقيتهم على تحركاته، قد أخر نزهته بعد الظهر عند سماعه نبأ اقتحام سجن الباستيل، فأقنعهم ذلك أن حادثا من النوع الذي يهز العالم قد حدث".
"إريك هوبزباوم متحدثا عن الثورة الفرنسية"

"لم يحدث منذ ظهور الشمس في السماء ودوران الكواكب حولها أن تمَّ إدراك أن وجود الإنسان يكمن في رأسه؛ أي فِكْره، الذي يلهمه لبناء عالَم الواقع… لم يستطع الإنسان إدراك مبدأ أن الفِكْر يجب أن يحكم الواقع الروحي إلَّا الآن. كان هذا إذنْ فجرًا فكريٍّا مجيدًا. وجميع البشر شاركوا في الاحتفال بهذا الحدث".
"هيجل متحدثا عن الثورة الفرنسية"

قدّمنا أن التحول الكبير وما نجم عنه من تحطيم للقوى الطبيعية كان بمثابة كسر للدورة الحضارية الخلدونية، استوقف هذا الحدث الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، كان كانط قد كتب من خلوته قبل الثورة الفرنسية بأربع سنوات مقالا مقتضبا قدّم فيه تصورا عن إمكان الوصول إلى نظرية جديدة تفسر حركة التاريخ، وهو تصور سيكون بذرة غير ناضجة لنظرية المسار، وعنوان هذا المقال: "نحو تاريخ كوني من وجهة نظر المواطنة العالمية" وقد رُوِّس هذا المقال عند نشره بهذه الجملة:

"ثمة فكرة عزيزة على قلب الأستاذ كانط، ومفادها أن غاية الجنس البشري هي بلوغ النظام السياسي الأكمل، وهو يأمل في أن يشرع مؤرخ فيلسوف في تأليف تاريخ للبشرية على ضوء هذه الفكرة، فيظهر فيه مدى اقتراب الإنسانية أو ابتعادها عن هذه الغاية في مختلف العصور، ويبين فيه ما تبقى لنا أن نفعله لكي نصل إلى تلك الغاية".

بنى كانط فكرته في هذا المقال على أن تاريخ البشرية ليس جملة من الأحداث العبثية التي لا تؤدي إلى غاية، بل إن هناك وراء الكوارث والحروب والنزاعات التي تطبع التاريخ البشري "خيطا مرشدا" يؤدي إلى غاية عليا ترومها الطبيعة من البشر وهي "اتحاد سياسي كامل" لا يعود للحروب والنزاعات فيه مكان، حالة من السلام الدائم يرسو عندها التاريخ البشري.

 

مشروع كانط في نقد العقل كان تحولا مهما وخطيرا لمفهوم العقل في العصور الوسطى، وهو مفهوم يختلف عن ذلك الذي قدّمه ابن خلدون في مقدمته
مشروع كانط في نقد العقل كان تحولا مهما وخطيرا لمفهوم العقل في العصور الوسطى، وهو مفهوم يختلف عن ذلك الذي قدّمه ابن خلدون في مقدمته
 

إن هذه الفكرة تعود في أصولها إلى جمهورية أفلاطون، وهي تتبنى ما جاء به التنوير من إثبات لمركزية العقل وحاكميته، والعقل هنا كما يتمثله التنوير هو تلك الملكة التي يختص بها البشر عن سائر الحيوانات وتجعل لهم القابلية للتحكم في الطبيعة والسيطرة عليها، هذه الملكة قدّم فيها كانط مشروعا فلسفيا مكتملا لتعريفها وتشذيبها وإبرازها قوة دافعة جديدة للبشرية بدل النوازع الطبيعية التي وصفها ابن خلدون. 

إن مشروع كانط في نقد العقل كان تحولا مهما وخطيرا لمفهوم العقل في العصور الوسطى، وهو مفهوم يختلف عن ذلك الذي قدّمه ابن خلدون في مقدمته، فمراتب العقل كما وصفها ابن خلدون كلها تنطلق من التجربة التي تمد بها الطبيعة الإنسان، وأول مراتبه هو "العقل التمييزي" وهو هنا عقل يتلقن من المحسوسات تصوراته ويرتبها في صورة أسباب ومسببات، ثم ينشأ عن هذا الترتيب والانتظام خبرة بالواقع المحسوس ما يفيد فيه وما يضر، وهذا هو "العقل التجريبي" الذي ينتقل بالخبرة من جيل إلى جيل، ثم" العقل النظري" الذي يبني على المحسوسات تصورات غيبية عن الأشياء في ذاتها.

وهو في فصل مهم من فصول المقدمة (فصل: في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب) يقرر أن الإنسان لا يمتلك في ذهنه شيئا سابقا على المحسوسات، فالمحسوسات نفسها هي التي تمده بهذه المقولات، فالإنسان "قبل التمييز خلو من العلم جملة… وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس والأفئدة التي هي الفكر".

الفكرة التي يخرج بها فيلم الماتريكس هي كون العقل المرتهن لهذه
الفكرة التي يخرج بها فيلم الماتريكس هي كون العقل المرتهن لهذه "المصفوفة" لا يدرك الواقع في ذاته، بل يدرك ما تعطيه له المصفوفة الرقمية على أنه واقع
 

لقد تمثل كانط العقل من جهته بكونه مختزنا بمقولات مجردة سابقة على الحس، وهذه المقولات إنما تظهر حين يبدأ الإنسان بملاحظة المحسوسات فتنسلك المحسوسات في قوالب هذه المقولات، وقد كان مشروعه لنقد العقل تبيينا لطبيعة هذه المقولات، واستنتاجا مهماً خلص إليه؛ هو أن العقل لا يستطيع إدراك الأشياء على ما هي عليه، بل هو يدرك ما ينسلك في قوالبه على الهيئة التي تقدمه بها، فالعقل هنا ليس متلقيا سلبيا بل هو آلة لصوغ الواقع المحسوس، أما الواقع في ذاته وعلى حقيقته فلا يمكن إدراكه. 

فالواقع بهذا التصور أشبه بالعالم في فيلم "الماتريكس"، إن الفكرة التي يخرج بها فيلم الماتريكس هي كون العقل المرتهن لهذه "المصفوفة" لا يدرك الواقع في ذاته، بل يدرك ما تعطيه له المصفوفة الرقمية على أنه واقع، هذه المصفوفة تمثل عند كانط المقولات القبلية التي تحجب عن العقل إدراك الواقع في ذاته.

يثبت كانط أن الطبيعة "المحسوسات" لا يمكن أن تكون حكما على العقل أيضا، لأننا لا نعلم ماهيتها وحقيقتها، فكيف نجعل منها حكما؟، بل وزاد على ذلك أن أثبت أن الهيمنة على تصورنا للطبيعة هي للعقل لا للطبيعة نفسها

إن هذه الخلاصة الكانطية كانت منسجمة مع التحول الكبير الذي بدأ إبعاد القوى والنوازع الطبيعية عن التحكم في حركة التاريخ، وقدم العقل باعتباره القوة المحركة الجديدة، وقد كانت أطروحة كانط حول التاريخ الكوني منطلقة من فكرة أن ينظر العقل لحوادث التاريخ ويسلكها في قالبه ويخرج من هذه العملية بنموذج "مصفوفة" عن التاريخ يمكن أن يفهمها- بغض النظر عن واقعية هذا النموذج، فالغاية هنا ليست فهم التاريخ على ما هو عليه، بل كما تقرره له مقولات العقل "المصفوفة".

كان ما قدّمه كانط إحياء وشرعنة لآمال أفلاطون، وإلغاء لحاكمية الطبيعة عليها، تلك الحاكمية التي قررها كل من ابن خلدون ومكيافلي، وجعلاها تحكم ببطلان نموذج أفلاطون في الجمهورية، فكانط هنا يثبت أن الطبيعة "المحسوسات" لا يمكن أن تكون حكما على العقل أيضا، لأننا لا نعلم ماهيتها وحقيقتها، فكيف نجعل منها حكما؟، بل وزاد على ذلك أن أثبت أن الهيمنة على تصورنا للطبيعة هي للعقل لا للطبيعة نفسها. وهكذا عادت آمال أفلاطون وجمهوريته إلى العمل.

سيصمم كانط في مشروعه النقدي للعقل ومراتبه، مبادئ عقلية كونية يزعم أنه لا خلاف عليها، لأنها من جوهر العقل، وهذه المبادئ ليست معرفية فقط، بل أخلاقية أيضا، فالعقل يحكم بوجوب اتباع فضائل معينة بحسب زعمه لا يختلف عليها أحد، وكأنما صمم كانط من هذه المبادئ للمفكرين من بعده "نظارات" يرون بها الواقع، "لنذكر جيدا نظارات نيو في فيلم الماتريكس".

هيجل ومحاضراته في التاريخ:

لبى هيجل دعوة كانط وبدأ ينظر في التاريخ مستخدما المصفوفة الكانطية، فالعقل حين ينظر في التاريخ هنا فهو سيدخله في هذه المصفوفة و ستنقي هذه المصفوفة ما هو غير "عقلاني" من حوادث التاريخ لتخرج فيما بعد بنموذج لمسار تاريخي للبشرية يؤدي إلى غاية وهدف نهائي يقرره العقل. سيلبس هيجل هنا نظارات كانط وينظر للتاريخ من خلالها، وسيتبنى هو كل ما تريه إياه هذه النظارات، وما دون ذلك فلن يعدّه هيجل تاريخا.

ما يحكم به العقل حين ينظر في التاريخ هو أنه يثبت تقدم البشرية في مسار خطي نحو غاية نهائية. وقد جعل هيجل من هذا التقدم قانونا كامنا في جوهر التاريخ يستنبطه العقل ويعيه في النهاية
ما يحكم به العقل حين ينظر في التاريخ هو أنه يثبت تقدم البشرية في مسار خطي نحو غاية نهائية. وقد جعل هيجل من هذا التقدم قانونا كامنا في جوهر التاريخ يستنبطه العقل ويعيه في النهاية
 

وخلاصة ما قدمه هيجل في محاضراته نظرية جديدة تصف حركة التاريخ، ترى هذه النظرية التاريخ لا بصفته دورات متتابعة يحكمها قانون الاستبدال الخلدوني، بل مسارا خطيا يتقدم نحو غاية يلقي عندها التاريخ ركابه وتنشأ عنها حالة من الاستقرار النهائي والسلام الدائم.

فالنظريات القائلة بكون الأمم والحضارات تمر بأطوار من الفتوة والشيخوخة والهرم، وكون حركة التاريخ دورات متتابعة لا تنتهي عند حالة معينة، هذه النظريات لا يمكن تعقلها ولا فهم حركة التاريخ من خلالها، إن ما يحكم به العقل حين ينظر في التاريخ هو أنه يثبت تقدم البشرية في مسار خطي نحو غاية نهائية. وقد جعل هيجل من هذا التقدم قانونا كامنا في جوهر التاريخ يستنبطه العقل ويعيه في النهاية، حيث تتحقق هذه الغاية بتحقق وعيه بها.

كانت الثورة الفرنسية عند هيجل هي بداية الوعي بالغاية النهائية للتاريخ، هنا يجب أن يرسو التاريخ عند حالة من الاجتماع البشري تحكم فيها قوانين ومؤسسات "عقلانية" نوازع الإنسان المدمرة وتكبحها، وتوجه عواطفة وإراداته نحو غاياتها ومآربها، آلة عظيمة تخلق من تلك النوازع الطبيعية السلام المطلق والاستقرار الدائم.. هي الدولة.

هكذا بنت الحضارة الغربية الظافرة لنفسها نظرية فلسفية تاريخية تقول بأنها آخر الحضارات وأمثلها طريقة، بل جعلت للتاريخ خطة هي غايتها ومآلها، هكذا سيقف التاريخ عندهم فقط، فلا مجال لاستبدال آخر يقع، ولا لدورة حضارية تستأنف.

وسنذكر فيما سيأتي ما نتج عن هذه النظرية من حالة من "الاحتقان" التاريخي، وسنذكر النبوءة الكبرى التي ولدت من رحم هذه النظرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.