شعار قسم مدونات

ذلك الوطن الذي غبر

blogs - syrian

قالوا الوطن هو محل الإقامة.. وقالوا الوطن هو الأرض التي اتخذتها محلًّا للسكن والإقامة، وكل هذه التعريفات لم تكن تلامس روح معنى الوطن بل لم تكن تجسِّد الوطن أمام من يقرؤها، لأن الوطن عندما يُعرَّف بلغة إنسان يريد أن يقدِّم بحثًا علميًّا أو مقالا فكريًّا تختلف جذريًّا عن ذلك الذي يريد أن يبين لك معنى الوطن وهو خارج حدوده، لأنه سيبني تعريفه من مشاعره وأحاسيسه وواقع حاله فترى التعريف منطقيًّا ولغويًّا بل موسوعيًّا يعرف لك الوطن تعريفًا يتفق مع حاله الذي قالت عنه الأغنية المشهورة "واللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه".

             

أغنيةٌ شاركت الحناجر العربية كلماتها لكن كما قيل لا يؤلم الجرح إلا من به الألم، ومن هنا فربما الذي غناها استطاع أن يفجر هذه الطاقة من الحنين إلى الوطن؛ لأنه عانى من ضياع وطنه وبعده عنه، فكانت حنجرته تنطلق من واقع حاله لا من خيال الكلمات. وكلنا يردد في ساعة الرخاء قول الشاعر:

  

وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه بالخلد نفسي

  

هكذا تمضي سفينة الغرباء بعد أن غبر وطنهم تمضي لا تعرف ميناء ترسو فيه ولا شاطئ تقذب بمن على سطحها إليه

ولكن ترداد بيت الشاعر في حالة الاستقرار في البلد تكون نغمةً موسيقية متبوعةً بسخريةٍ لاذعةٍ تصوِّر ظلم الوطن له وكثيرا ما كنا نقول وطن ماذا وأيُّ وطن لفقيرٍ لا يجد فيه كسرة خبزٍ، لكنَّ وقع هذا البيت سيكون له مفعولٌ آخر لذلك الذي فارقت بينه وبين وطنه فيافٍ وقفارٌ وسهولٌ وجبال يذكر أنَّ هناك خلف تلك الجبال ترك سيرة حياته هناك حيث رأى النور ومازجت ريح تلك الأرض روحه وسمعت أولى صرخاته هناك هو الوطن يعرف أن الوطن ليس مالا ولا مادة ولا مناظر طبيعية بل هو ذاته وكينونته ومعنى وجوده.

   

ولهذا لن تعرف معنى الوطن إلا عندما تغيب عنك ملامحه وخريطته التي كانت متماهيةً مع روحك فالوطن أنت وأنت الوطن مجموعك يمثله ويُشكِّله، الوطن هو الذي تراه اليوم وأنت غريبٌ لا تستطيع ولوج أسواره تنظر إليه عبر لوحاتٍ في الذاكرة تخطفك يمنةً ويسرة لوحاتٍ ليلية ونهارية لوحاتٍ تشمل وقتك كلّه هذا هو الوطن المفقود الوطن الذي لو أثيرت كلمة حبِّ تذكَّرتَ كلَّ زاوية من زواياه لو قيل حنين شممت رائحة ترابه الممزوجة بقطرات مطر سمائه الوطن ذلك المحجوب عنك اليوم مع سهولة المواصلات وقِصَر المسافات لكنه بعيد عنك أنت أيها الغريب عن حماه.

     
ولهذا أعذر من تراه غريبا لا يقبل سماع وطنه ويشيح عن ذاكرته كل كلمةٍ تذكره به كلَّ لحنٍ يُطرب أذنه بحنين إلى الأرض التي فيها وُلِد، تراه يبادر إلى صدّ تلك الكلمات بكلماتٍ تصرفه عن كل ما يحرِّك لواعج نفسه ويفجر براكين شوقه اعذره فوطنه لو ذكره خارت قواه أعذر ذلك البعيد عن تلك الأرض التي عرفته أحبها وعشقها بصمت وتركَ لشروق شمسه وغروبها أن تحكي قصة الحب بينه وبين وطنه الذي فيه نشأ وترعرع فما عاد اليوم قادرًا على حمل هم ذكراه لأنها تشدُّه إلى ذلك الوطن الذي غبَرَ في فضاءات من الذكريات الأليمة، يحاول أن يعيده ولكن هيهات فتلك الأيام غدتِ اليوم سرابًا دعه يألف مكانه دعه يحقِن نفسه بمسكِّنات وطن جديد يسعى أن يألفه، صحيحٌ أنه مهما نقَّل فؤاده فهواه لن يغادر أوّل منزل، ولكن عساه ينسى كي يعيش وإلا فلوحةُ وطنه لو بقيت معلَّقةً في عقله فلن ينبض قلبه بحياة.

       

لم أعرف قيمة الوطن إلا بعد فراقه فهل عسانا نلتقي ونغسل أدران زمن أغبر حاول صرفنا عن تذكر حياتنا فيك
لم أعرف قيمة الوطن إلا بعد فراقه فهل عسانا نلتقي ونغسل أدران زمن أغبر حاول صرفنا عن تذكر حياتنا فيك
 

هل تظنه نسي وطنه هيهات وكيف ينسى الإنسان روحه لتعلمْ أنه من شدة تعلِّقه يحاول أن يسلو بملهياتٍ تضمن بقاءه. كان وطنًا يعيش معنا ويحتضننا ولكن من عادة المعطي ألا يعرف عطاؤه إلا بعد فنائه كان وطنًا تغنينا فيه كثيرا لكن لم نكن نعلم أن كل معاني الأغاني التي قيلت سنرددها اليوم بصدق مشاعر ودموع شوق لهذا الشيء العجيب الذي سُمِّي الوطن.

   
ترسل الأرواح إليه عبر مسارات الشوق والحنين صرخاتها في سجون الدنيا كلها نعم تضيع البوصلة وأنت بغير وطن والغريب أن أبناء الوطن نفسه عندما غير غبرت معه أخلاقهم وصاروا غربة أخرى لا تجد فيهم وطنك القديم تتغير الوجوه في الغربة وتتبدل المعاملات حتى مع أبناء الوطن الواحد الذي كان يجمعهم بألوانهم وأخلاقهم أكثر ما يعذب الغريب أنه صار يخشى حتى من أبناء وطنه يخشى من ظلم ذوي القربى أكثر من خشيته من ظلم الأغراب له، هكذا تمضي سفينة الغرباء بعد أن غبر وطنهم تمضي لا تعرف ميناء ترسو فيه ولا شاطئ تقذب بمن على سطحها إليه.

    
عجيب أنت يا وطني بل غريب أنت أيها الوطن يهزأ المواطن فيك من اسمك ويعرف قيمتك بعد فراقك فهل عسانا نلتقي ونغسل أدران زمن أغبر حاول صرفنا عن تذكر حياتنا فيك، ولكن أبت الروح إلا الحنين لأول منزل مهما أحاطت بها أساور الجمال المادي الحضاري إلا أن هذه الروح ألفت تلك المكان ولو كان خيمة تخفق فيها الريح لأن الجسد ما هو إلا انعكس لحال الروح والروح تقول دائما أين أنت ذا ذلك الوطن الذي غبر وهل عشنا نلتقي وتعود بهجتنا والأفراح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.