شعار قسم مدونات

نقد التمثلات الخاطئة حول القانون.. أنطولوجيا القضاء الإداري المغربي(3)

blogs - قضاء
لا أحد ينكر الدور الإيجابي الذي لعبه القضاء الإداري في ضبط وتحديد بعض المفاهيم المرتبطة بالسلطة، الإدارة والقانون الإداري، كحالات واقعية، أو قل إمبريقية، تخضع لمنطق التجربة، هذا الضبط السابق يُظهر الأهمية المركزية للقضاء الإداري في البنية القضائية لأي دولة. وحاول المغرب منذ مدة بعيدة أن يؤسس لدعائم القضاء الإداري، لكن التجربة اصطدمت كما تصطدم كل النقول القانونية والمؤسساتية الآتية من الغرب والحاملة لفكرة التقليد، بجدار الخصوصية والوضعية الاجتماعية المختلفة.

لقد قاوم القضاء الإداري – قبل نشوئه الحقيقي وبعد النشوء الحقيقي – كل هذه الإكراهات، بدءا من النظام المغربي وانتهاء بالمجتمع المغربي المركب كما ذكر ذلك بول باسكون (بول باسكون، طبيعة المجتمع المزيجة، ترجمة: مصطفى كمال، مقال منشور في مؤلف جماعي حول علم الإجتماع القروي، دار القرويين، 2013، ص. 53)، ويمكن قراءة هذه المقاومة في أحكامه وقراراته والتي تميزت بنوع من الحذر في بداية عمله في استنباط الأحكام وخلق المبادئ والقواعد القانونية.

يُذكر هذا الحذر بما كان يعيشه القضاء الإداري الفرنسي مع النظام السياسي زمن التأسيس، فحاول أن يترك حيزا غير مراقب في السلطة التنفيذية، فأسس بذلك "أعمال السيادة"، أو مجال الأكتوريتاس (أي تحكم السلطة بالحياة والواقع لا القانون)، وإن مفهوم الأكتوريتاس يعود إلى القانون الروماني، ويفيد منح سلطة للحاكم تفوق القانون، كما يقول أرخيتاس (فيلسوف إغريقي) في رسالته "القانون والعدالة": "…القانون، ملك وحرف، الأول قانون حي لا معياري، والثاني قانون مدون معياري…".

القانون ظاهرة اجتماعية لا تنفك ترتبط مع المجتمع، وأن أي انفصال بينهما دليل على فساد القانون لا فساد المجتمع
القانون ظاهرة اجتماعية لا تنفك ترتبط مع المجتمع، وأن أي انفصال بينهما دليل على فساد القانون لا فساد المجتمع
 

وهذا المفهوم يفيد في تأصيل أعمال السيادة تأصيلا غير نمطي كما هو الحال في مختلف الكتابات التي حاولت أن تتطرق لأعمال السيادة. (انظر: جورجيو أغامبين، حالة الاستثناء، الإنسان الحرام، ترجمة: ناصر إسماعيل، مدارات للأبحاث والنشر، ط 1، 2015، ص. 169).

في حين أن معنى الحذر في أحكام القضاء الإداري المغربي مختلف تماما، إذ يتولد عن طريق البنية الأيديولوجية والدينية المهيمنة على النسق السياسي، أو قل الفاعل الديني كفاعل سياسي (العلوي رشيد، الفاعل الديني كفاعل سياسي، منشورات مجلة أفكار، عدد 19، أكتوبر 2017، ص. 48 وما يلي)، وكذا انفصال القانون عن المجتمع انفصالا روحيا.

لكن مع مرور الزمن أصبح القضاء الإداري أكثر جرأة في أحكامه إذ أسس لبعض من مقومات الرقابة الصارمة والتي قضت على بعض التأويلات الإدارية لبعض المفاهيم الإدارية، وتحديد المجال الإداري تحديدا لا انحراف معه، إذ الانحراف بيِن والصواب بيِن، وهذه المراقبة تمثلت في بسطه لرقابة الملاءمة عند بته في أعمال الإدارة المتسمة بالسلطة التقديرية، فحاول القضاء الإداري أن يحد من سلطة الإدارة على الواقع.

لكن سرعان ما بدأت توجهاته الكبرى بالأفول، بسبب التباعد الزمني بين زمن التأسيس، والزمن الحالي، الذي دخلت فيه المفاهيم القانونية عصر الأزمة، ويعاني أيضا من هذه الأزمة القضاء المغربي، تأخذ طابعا بنيويا وموضوعيا، أخذت بظلالها على عمل وتصورات القضاء الإداري المغربي.
لقد تهدمت كثير من المسلمات التي أحاطت بعمل القضاء الإداري، ومسلمات أخرى في طور التهديم، بل إن قراءة الأحكام تعكس الكثير من دلالات تفيد تهديم هذه المسلمات، كما أن اليوم فقدت الأحكام معناها، وأصبحت دلالات ألفاظها ومعاني حيثياتها نمطية.

لا ننكر دور التقنية في تطوير القضاء الإداري، لكن لوحدها ستقضي على الآمال القائمة في وضع تصورات نظرية تضبط عمل القضاء الإداري

ولما كان الحكم القضائي مساوقا للواقعة والقانون، فإنه يجب أن يضبط الواقعة عن طريق الأبعاد المكونة لهذه الواقعة سواء البعد السوسيولوجي أو الفلسفي أو النفسي أو أي اعتبار آخر يلف الواقعة لفا، فيصبح البحث عن التكييف القانوني سهل، إما تفسيرا عن طريق دلالة قطعية أو تأويلا عن طريق دلالة ظنية.

ومن جهة أخرى يجد القاضي الإداري صعوبة واقعية تمثل في التكييف مع المحيط العام سواء الدولة أو المجتمع، وساعدت على تكون هذه الصورة الانعزالية للقاضي الإداري، بسبب انتشار آفة الدعوى المستمرة "لاستقلال النظام القانوني" أو قل مبدأ كفائية النص القانوني، ونعترض على هذه الدعوى من الوجوه التالية:

– أن القانون ظاهرة اجتماعية لا تنفك ترتبط مع المجتمع، وأن أي انفصال بينهما دليل على فساد القانون لا فساد المجتمع.
– أن القضاء الإداري أحد أوجه العدالة.
– أن القضاء الإداري متصل بالقانون اتصالا مأولا لا اتصالا مفسرا تقنيا.
– أن القضاء الإداري متصل بالمجتمع لاتصاله بالقانون.

لا شك أن المعطيات التي تم طرحها سابقا، تستدعي الانطلاق من سؤال أنطولوجي مرتبط بالتشكيك في البداهات التي بني عليها جهاز القضاء الإداري وبنى عليه من بعده القانون الإداري.
سيتيح هذا السؤال البحث في المسلمات، وتصحيح ما اعوج منها أو ما انحرف منها، إذ التشكيك مهمة علمية مهمة لم يعد الباحثون اليوم يقومون بها، بل أصبح جل الباحثين تقنيون يهتمون بالشكل لا المضمون، لا ننكر دور التقنية في تطوير القضاء الإداري لكن لوحدها ستقضي على الآمال القائمة في وضع تصورات نظرية تضبط عمل القضاء الإداري.

رغم ما كان للمشرع من نية في تقريب القضاء الإداري من المواطن، لكنه تقريب جاء على حساب جودة القضاء الإداري وفعاليته، ولذلك يجب محاولة إعادة توزيع المحاكم
رغم ما كان للمشرع من نية في تقريب القضاء الإداري من المواطن، لكنه تقريب جاء على حساب جودة القضاء الإداري وفعاليته، ولذلك يجب محاولة إعادة توزيع المحاكم
 

إن مشكلة القضاء الإداري اليوم بالأساس مرجعية، والتي تؤثر في أحكامه وفي جانبه العلائقي سواء مع الدولة أو المجتمع، وتنصرف أيضا نحو الأسس العلائقية والقانونية التي تؤثر في القضاء الإداري بنية واختصاصا واجتهادا. ويرتبط بالأساس ببعدين:
الأول اعتبار المحيط: أي الجانب العلائقي بين القضاء الإداري والدولة، المجتمع، فلا ينفك السؤال الأنطولوجي أن يرتبط برصد عمل القضاء الإداري في ظل محيط مجتمعي يؤثر فيه، بل يتأثر الآخر به أيضا.

والثاني اعتبار الذات: أي الجانب البنوي في علاقة القضاء الإداري بالقانون وبالنوازل ومناهجه في التعامل معها، وكذا اجتهاده، أي البحث عن القيود التي تؤثر في عمله الذاتي.
فالسؤال الأنطولوجي في حقيقة الأمر، هو سؤال عن مدى ارتباط أو انفصال القضاء الإداري عن المجتمع؟ وهو سؤال أيضا عن مناهج القاضي الإداري في التعامل مع النوازل وسؤال اجتهاد القضاء الإداري وتأويل القاضي الإداري للقانون، وسؤال أيضا حول جرأة القضاء الإداري في بسط رقابته عن الجانب المظلم في القانون الإداري، ذلك الجانب غير المراقب والذي مُنح للسلطة التنفيذية في زمن تحققت شروط هذا المنح، واليوم يجب زوال هذا الاستثناءات بزوال شرط المنع.

يجب استحضار هذا السؤال في إطار المقاربة السوسيولوجية من خلال الفرضيات التالية:
– الأولى؛ هي علاقة المجتمع بالقانون في إطار آمرية القانون على المجتمع، وكيف تنتج هذه الآمرية تفاعلا سلبيا معه، وتنتج عن هذه العلاقة في غالب الأحيان نظرة سلبية للمواطن تجاه القانون، من خلال الرفض المستمر للقيود القانونية وللآجالات والمساطر القضائية، المترتبة عند تطبيق النص القانوني.

ثمة أسئلة تشغلنا حول وضعية القضاء الإداري بالمغرب، وفعاليته ضمن محيطه وتصوراته الذاتية في استنباط الأحكام والنظر في الوقائع والقضايا

ويمكننا الاستدلال على هذه الفرضية بمثال عملي يتمثل في المقتضى القانوني المتعلق بإنشاء أقسام القضاء الإداري بالمحاكم الابتدائية والاستئنافية بالمغرب، والمنصوص عليه في مشروع التنظيم القضائي المغربي، الذي لم يتم دراسته من خلال المقاربة السوسيولوجية (أدوات الإحصاء)، فخلف هذا المقتضى بعضا من المشاكل حول دور هذه الأقسام التي لا ترقى لأن تكون محاكم إدارية.

وهذا الأمر سينتج عنه لا محال انفصال بين المجتمع وهذا القضاء، أي سيصبح المجتمع لا يثق بهذه المؤسسة التي لم تحقق حتى تطورها الداخلي، رغم ما كان للمشرع من نية في تقريب القضاء الإداري من المواطن، لكنه تقريب جاء على حساب جودة القضاء الإداري وفعاليته، ولذلك يجب محاولة إعادة توزيع المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية بالمغرب من خلال مراعاة المعايير السوسيولوجية الثلاثة التالية:
1- المعيار الجغرافي من خلال مساحة الجهة.
2- المعيار السكاني من خلال عدد السكان الجهة.
3- المعيار المتعلق بعدد القضايا الرائجة في الجهة.

– الثانية؛ علاقة علم القانون بعلم الاجتماع، من خلال تجاوز دراسة القانون مستقلا عن العلوم الاجتماعية، وهذه مسألة أخرى مرتبطة بالإشكال الواقعي السابق. هذه العلاقة المركبة تطرح فرضية مهمة حول" الدور السوسيولوجي للقاضي الإداري".

وأيضا استحضار مهمة نقد القانون كمهمة نظرية تمكن من رصد التفاعلات التي تصاغ بها أحكام القضاء الإداري، من خلال قراءة تأويلية تهتم بالمعاني ومعيارية أحكام القضاء الإداري مثلا (العدالة الإدارية أو العرف الإداري..).

خلاصة الكلام؛ لقد قدم هذا المقال أسئلة تشغلنا حول وضعية القضاء الإداري بالمغرب، وفعاليته ضمن محيطه وتصوراته الذاتية في استنباط الأحكام والنظر في الوقائع والقضايا، وهي أسئلة لا إجابة عنها الآن، وإنما مقدمة الكلام في باب الرصد الكلي لعمل القضاء الإداري، تلك النظرة التي غابت عن أذهان الباحثين في ظل الانكباب الأعمى حول الجزئيات دون محاولة الربط بين هذه الجزئيات لاستنتاج الكليات الضابطة لفعالية القضاء الإداري، والإجابة عن هذه الأسئلة يقتضي تحويلها إلى فروض لعلها تنتهي إلى حقائق علمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.