شعار قسم مدونات

فرعون ديمقراطي بامتياز

blogs - القرآن
كثيرا ما تراود أذهاننا مقتطفات من النص القرآني بغاية تنزيلها على أحداث ووقائع وسياقات من واقعنا اليوم.. آيات ومقتطفات من القرآن الكريم ومما يجذبنا من عِبر الكتاب نظنّها قريبة من بعض حيثيات الواقع وأحيانا نعتقد حسب فهمنا المحدود للنص بأنها مطابقة لبعض الوقائع وكأنها تصفها بالدقّة اللازمة..

ولعل ما يتجلى في واقع استضعاف تغمره الجماجم والدماء والأشلاء ويفرط فيه الحاكم جورا على قومه يجعلك تبحث في قصص نص السّماء عمّا يشابه هذا الواقع على الأرض زعما بأن التاريخ يكرّر نفسه، وبأن سنّة الحُكّام على الأقوام هو أمر نافذ عبر التاريخ، واعتقادا بأن هذا الواقع الدموي هو استمرارية متماثلة الجوانب لوقائع مسرودة في الكتاب نَوّهت إليها الملائكة في سؤالها السرمدي المثير للجدل "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"..

وقائع من النص تجعل من قارئها يجزم بتطابق السياق في أبعاده العقدية والمبدئية ليسعى بذلك لاتخاذ سنن من قصص النص في التعامل مع كل واقعة.. ولكن السؤال هنا.. من قال بأن الأرض تسير بالبشر في سنّة السّفك والإفساد على وتيرة طغيانية واحدة؟ ومن قال إن التنزيل والحكمة يُستخرجان من القرآن بيُسر؟ ومن قال بأن النص ضرب لنا مقايِيسا ومعاييرا نموذجية قصوى لا يمكن أن تتكرر في أي واقع؟

حكامنا إذا تحدثوا وجب عليك الصّبر حتى تخرج العبارة سليمة من أفواههم، وإذا خرجوا للشعب طُوّقوا بالطائرات والدبابات والحرس الشديد، وإذا تحاوروا مع خصومهم استعملوا فصاحة الرصاص ولسان القاضي الحاكم بالإعدام..

ولكي يكون التساؤل متجليا بوضوح.. من قال إن البشري القائل "أنا ربكم الأعلى" هو نموذج أعلى للطاغوت الظالم الجائر؟ وأن الذين بغى وعلا عليهم هم النموذج الأسمى للمستضعفين في الأرض؟
كلاّ.. لم يكن فرعون معيارا أعلى لتقييم طغاتنا وإن قيل فيه:
"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" فإنه كان من المفسدين ولا شيء هنا يفيد بأنه كان أكثرهم إفسادا.

فلو أننا ندقّق في المفارقات بين زماننا هذا والزمان الفرعوني، لما تيسّر لنا تنزيل آيات الكتاب ببساطة على واقعنا.. بل إن تنزيل صفات فرعون على طغاتنا لا يلحق بمنزّلها إلا التهمة بالتطرف والإرهاب، لذا كان علينا قلب الآية، فالأجدر بنا أن ننزّل على التاريخ الفرعوني مصطلحات العولمة ومسمّيات التزييف.. ففرعون بمعايير النظام العالمي في القرن الواحد والعشرين يُعتبر ديمقراطيا بامتياز، وقوم فرعون بذات المعيار يُعتبر مجتمعا مدنيّا.. ونظام الحكم في عهد فرعون يتضمّن كلّ شروط ومقاييس الديمقراطية.. وآليّات العقاب والتعذيب والتنكيل في زمن فرعون لا تنافي أبدا قيم ومواثيق حقوق الإنسان في زماننا هذا.. ولعل النص القرآني فيه أكثر من دليل على هذا..

علينا أن نتفق أولا أن الذي قال "أنا ربّكم الأعلى" حسبما تقتضيه ديمقراطية عصرنا لم يكن بقوله هذا إلا مضفيا لشرعية السلطة التنفيذية العليا على نفسه.. وإن الذي قال "ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد" لم يكن بقوله هذا حسبما تنصّ عليه ديمقراطية عصرنا إلا رئيسا يوقّر هيبة الدولة وله رؤية استراتيجية يسيّر بها حكمه الرشيد على شعبه..

وبعد.. فإن من أبرز خصال الرقي الديمقراطي في شخصية فرعون هو أنه كان محاورا ديبلوماسيا رصينا لألد أعدائه.. فنحن هنا نتحدث عن فتى نشأ وترعرع في قصر فرعون ثم كبر ليدخل القصر مجددا برسالة اعتبرها الملأ من قوم فرعون أي مجلس الشعب آنذاك بأنها رسالة تهدد العرش وتنذر القوم بإجلائهم من أرضهم "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ".. لتكون على إثر ذلك دلالة أخرى بأن الرجل زعيم شوري "فَمَاذا تَأمرُون" زعيم يحترم مؤسسات الدولة ولا يتخذ قرارا إلا بموافقة مجلس الشعب ليتشاوروا فيما بينهم وينعقد أمرهم بأن قالوا "أرجه و أخاه" أي أمهلهما.. لتتجلى بعد ذلك الصورة الديمقراطية الأمثل لفرعون.. فقد اختار أن ينازل خصمه بأسلوب كريم متحضّر، ولأن فرعون رجل ديمقراطي كان يريد أن تكون هزيمة خصمه أمام الشعب باستعمال وسائل الحجّة والبرهان بل في الزمان والمكان الذي يحدده خصمه "فاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَانًا سُوى" ..

فكيف يكون فرعون مثلا يُنزّل على غيره من الطغاة وهو أكثرهم ممارسة للديمقراطية، وكيف تُقارن أقواله بأقوال طغاتنا وهو أكثرهم إيمانا بالحوار؟ فقد بلغ حواره مع موسى عليه السلام كما هو وارد في القرآن مبلغا عظيما من الرقي والبلاغة، ويكفي أن نستحضر قولين لكليهما يلخّصان مدى شفافية الحوار وعظمة المشهد.. قول فرعون "وإني لأظنك يا موسى مسحورا"، وردّ موسى "وإني لأظنك يا فرعون مثبورا"..

لما سئل بعد محاضرته عن سبيل الحوار بين السيسي والإخوان ولّى مدبرا ولم يُعقّب.. لم ير جانا يهتز ولكنه في الحقيقة رأى في السؤال واقعا يهزمه ويهزم قناعته في تنزيل النصّ الذي استدلّ به على واقع هذا الزمان.

ولم يكن موسى ليقول قوله الجريء هذا لو لم يتوفّر له المجال لذلك.. لتتم بعد ذلك ممارسة قواعد الوجه الآخر للديمقراطية.. الديمقراطية الصارمة التي تنص على أحقية الحاكم في اتخاذ إجراءاته لحماية الدولة والشعب من أي متسلط على هيبة الدولة، فعندما شعر فرعون بخسارته بدأ في إلقاء تهمة الموالاة للعدو ومحاولة الانقلاب على هياكل الدولة "قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ، إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُون" ليقيم بذلك حجّته القانونية على المنقلبين ويشرع بحصاره لخصومه وتهديده وإرهابه "لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ"..

كل هذا في إطار الديمقراطية، ففرعون ديمقراطي في اللّين والشّدة، وخطابه هذا يخوّل له مبدأ الدفاع عن السلم القومي والحفاظ على الأمن والاستقرار.. وهذا الوجه الثاني من الديمقراطية هو الذي يمارسه طغاتنا مباشرة دون سابق من الأدوار الليّنة، وهنا يكمن الفرق الشاسع بين فرعون وطغاتنا..

ففرعون طاغية يمارس الطغيان بنبل ويجعل من طغيانه رسالة خالدة للبشرية، وطغاتنا يمارسون طغيانهم بعبثية رسالتها الوحيدة هي أنهم خُلقوا وحوشا لا حجّة لهم في عدائهم مع خصومهم سوى أنهم يشتهون الخلود على الكرسي حتى وإن كان ثمن شهوتهم موت الجميع.. وفرعون حاكم فصيح دائم التشاور ولا ينأى بنفسه عن الشعب ولا يرفض مجاراة خصومه.. وحكامنا إذا تحدثوا وجب عليك الصّبر حتى تخرج العبارة سليمة من أفواههم، وإذا خرجوا للشعب طُوّقوا بالطائرات والدبابات والحرس الشديد، وإذا تحاوروا مع خصومهم استعملوا فصاحة الرصاص ولسان القاضي الحاكم بالإعدام..

وهنا أذكر فيديو كان رائجا للداعية عمر خالد وهو يتحدث عن قيمة الحوار بين الناس مستدلا بالحوار في القرآن الكريم وتكرّر كلمة "قال" ومشتقاتها في النص.. ولما سئل بعد محاضرته عن سبيل الحوار بين السيسي والإخوان ولّى مدبرا ولم يُعقّب.. لم ير جانا يهتز ولكنه في الحقيقة رأى في السؤال واقعا يهزمه ويهزم قناعته في تنزيل النصّ الذي استدلّ به على واقع هذا الزمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.