شعار قسم مدونات

في ذكرى – لا مؤاخذة – الثورة

blogs - ثورة 25
منذ قليل استيقظت من النوم، وبينما أبحث عن الهاتف لأتصفح فيس بوك أو أفتح البريد الإلكتروني، أتكاسل قليلًا لأنني لن أذهب اليوم إلى العمل، فاليوم ذكرى 25 يناير، فأنام وأتكاسل كما يحلو لي. وبينما أنا كذلك، وجدت ابنتي تالا بجانبي، نائمة كأجمل ما يكون الإنسان النائم، وبينما أنا كذلك، قفزت في رأسي أبيات أمل دنقل "كيف ترجو غدًا لوليد ينام.. وهو يكبر بين يديك بقلب مُنكّس؟"، وكأن عقلي ربط بين تاريخ اليوم وتكاسلي وابنتي النائمة، فترجم ذلك الربط إلى بيت الشعر هذا!

تنظيف الميدان:
لم أكن يومًا ثائرًا، كنت دائمًا شخصا مطيعا وأقول أكثر الكلمات التي يحب سماعها الآباء والأمهات في البيوت، والمدرسين في المدرسة، والمديرين في العمل (نعم وحاضر)، وكنت في أثناء الثورة في 2011 أعمل في إحدى القرى السياحية بشرم الشيخ، كنت قد كرهت الزحام والدخان والإزعاج، وكرهت المشاكل، ففكرت في أبعد مكان يمكنني العيش والعمل فيه فكان جنوب سيناء وتحديدًا شرم الشيخ، وكنت لا أترك شرم إلا في الإجازات وسرعان ما أعود. ومع اندلاع الثورة، برغم أنني كنت أتابع الأحداث فقط عبر التلفاز أو الإنترنت، إلا أنني كنت أعيش حالة داخلية من الهيام بما يحدث، كنت أشعر أنني منفصل عن العالم، كنت أشعر أنني عُرج بي إلى السماء لأرى ما لا يراه أحد، كنت مهتما بكل التفاصيل التي تحدث وكل الأخبار التي تذاع، كنت كثيرًا ما أصمت، وكثيرًا ما أبكي، وكثيرًا ما أهيم على وجهي أتخيل المستقبل المشرق الذي يصنعه أقراني من أجلي ومن أجل كل من يتابعون عن بُعد مثلي.

اليوم يجب أن نقول "لا مؤاخذة" قبل كلمة الثورة، يقولها أحدنا للتعبير عن الاعتذار لأنه لم يشارك فيها ولا قبلها ولا بعدها، ويقولها الآخر أسفًا لأنه شارك فيها وآلت الأمور إلى ما هي عليه الآن، ويقولها أحدهم حنقًا لشهيد فقده في أحداثها.

وفي أول إجازة، وصلت القاهرة في الخامسة صباحًا، لم أذهب إلى البيت ولكن توجّهت إلى الميدان وكانت الأحداث الجسام قد مضت، ولم يكن هناك إلا شباب يقومون بالتنظيف والدهان والترميم، فقلت هي فرصتي إذن لأشارك في صنع المستقبل، وظللت أشارك معهم في التنظيف بكل حماس وسعادة وكأنني فارس أسطوري يطوي الزمان والمكان محاربًا. ثم جلست بعدها أكتب بعض الخواطر.

محمد منير:
كنت في ذلك اليوم في إحدى الغرف (نطلق عليه استديو) أقوم ببعض الصيانة، وكان التلفاز يعمل حتى لا يفوتني أي حدث، وفجأة توقف الزمن، وظهر عمر سليمان على الشاشة يتلو تلك الكلمات الخالدة والتي أحفظها عن ظهر قلب، وترن في أذني وكأنه يلقيها الآن "بسم الله الرحمن الرحيم، أيها المواطنون، في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، والله الموفق والمستعان"، وهنا لم أجد نفسي إلا ساجدًا لله، يرتعد جسدي من جلال اللحظة، ولم أسمع إلا صوت بكائي من الفرح، وصوت محمد منير وهو يغني "إزاى ترضيلي حبيبتي؟ أتمعشق اسمك وأنتي.. عمّالة تزيدي في حيرتي ومانتيش حاسة بطيبتي إزاي؟.. مش لاقي في عشقك دافع.. ولا صدق في حبك شافع.. إزاى أنا رافع راسك وأنتي بتحني في راسي إزاى؟!" وظللت أردد معه هائمًا، أردد الكلمات، أطير بخيالي إلى المستقبل، أرى كيف ازدهر التعليم، وكيف تم تقدير العلم والعلماء، وكيف ساد العدل، وكيف ضُرب الفساد والظلم، وكيف حكم الشباب وأصبحوا يديرون أمور الدولة، وكيف نربي أطفالنا على الحرية وحب الوطن والموت في سبيله وبنائه، وكيف أصبح الواحد منّا يظل محتفظا بالورقة في يده طول الطريق ليلقيها في سلة القمامة حتى لا يلقيها في الشارع الذي طهرته دماء الشهداء، فنخاف أن نلقي ورقة في مكان قد يكون مر منه شهيد، ونخاف أن نسب أو نتلفّظ بالسوء في مكان قد يكون مر منه شهيد. كانت كل هذه خيالات أو سمِّها أوهام عن المستقبل!

لا مؤاخذة الثورة:
اليوم، حين أتحدّث مع أحد من عائلتي أو أصدقائي أو زملائي في العمل عن سبب أننا في إجازة، تجد أحدنا يقول للآخر،لأن اليوم ذكرى – لا مؤاخذة – الثورة، اليوم يجب أن نقول "لا مؤاخذة" قبل كلمة الثورة، يقولها أحدنا للتعبير عن الاعتذار لأنه لم يشارك فيها ولا قبلها ولا بعدها، ويقولها الآخر أسفًا لأنه شارك فيها وآلت الأمور إلى ما هي عليه الآن، ويقولها أحدهم حنقًا لشهيد فقده في أحداثها، ويقولها أحدهم خوفًا من أن يسمعه أحد من الذين "ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم"، وأقترح أيضًا أن تُدرج كلمة "لا مؤاخذة" في الكتب المدرسية التي تتحدّث عن الثورة وكذلك كتب التاريخ والبرامج الوثائقية.
حين أحكي لابنتي تالا عن أحداث – لا مؤاخذة – الثورة في المستقبل وتسألني ما معنى لا مؤاخذة؟ سأقول لها اقرأي تدوينتي "في ذكرى لا مؤاخذة الثورة" وستفهمين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.