شعار قسم مدونات

ضرورة الخلاص من أدلجة الدين

Preparations continue ahead of celebrations for the birth of Prophet Mohammed in the old city of Sana’a, Yemen, 01 January 2015. Preparations continue for the celebration of the birth of the Prophet Muhammed in the Yemeni capital Sana’a one day after a suspected al-Qaeda suicide bomber blew himself up at celebration held by Houthis in the the central Yemeni province of Ibb, killing an estimated 49 people and wounding dozens.

لعلي لا أغالي لو قلت بأن أجواء الفرح والبهجة تعانق المسلمين في مختلف المعمورة، فالناس على طبعهم دأبوا على تخليد ذكرى ولادة أو وفاة زعيم أو قائد كان له الأثر البالغ في حياتهم. وهذا جلي عند الحركات الإصلاحية بمختلف مشاربها ومرجعياتها، حيث نجدها تحيي ذكرى مؤسسها الأول والمنظر لمشروعها الإصلاحي.
 

وبالتالي، كيف لا يكون الفرح بالمسلمين في أيام يخلدون فيها ذكرى ولادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو من كبار الرجال في التاريخ الإنساني، الذي قاد أعظم حركة إصلاحية منذ ما يزيد عن 14 قرنا وما تزال روحها تسري في صمت. فالذي ميز الرسول -صلى الله عليه وسلم- كإنسان عن باقي زعماء الحركات الإصلاحية بالرغم من نبوته، هو أن فكرته الإصلاحية بقيت خالدة حتى بعد وفاته، ولم يُقيد وجودها برمز سياسي "دولة أو إمبراطورية.." أو أشخاص وزعمات.
 

إذ نجد أن الدولة الأموية والعباسية جعلت من الإسلام مرجعية لها والأمر نفسه بالنسبة للإمبراطورية العثمانية، لكن التاريخ يذكرنا بأن هذه التنظيمات السياسية سقطت وبقي الإسلام خالدا من بعدها. كما عرف تاريخنا رجال مجددون على رأس حركات اجتماعية دينية ذات طابع صوفي، لكنها تلاشت بعد وفاة زعيمها، لكن الإسلام لم يمت معه بل في عز انهيار الأنظمة السياسية الحاملة لرمزه، نجح في اختراق دول وحضارات أخرى، ووصل إلى شرق أسيا وجنوب أوروبا مرورا بأدغال إفريقيا. خلافا لمعظم الحركات الإصلاحية التي أفل نجمها بمجرد انهيار رمزها السياسي، وهنا يضرب المثل كثيرا بالفكرة اليسارية التي حملت على عاتقها الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، هذه الفكرة أفلت بعد انهيار رمزها السياسي "الاتحاد السوفياتي.
 

المتتبع لمجريات الأحداث في مجتمعاتنا يلاحظ أن الدين تحول إلى وسيلة لتعطيل قدرات الإنسان وإخضاعه لأيديولوجيات تكبح أفقه التحرري.

عذرا، فقد ذهب بنا الحديث بعيدا، والغرض من هذه المقالة هو البوح بما قد يثير حفيظة العديد من أصحاب العقليات الكلسية والمعرفة المؤدلجة، وسيتعارض كلامي مع مقولات اللاهوت الكلاسيكي القائم على التفسيرات القمعية للنصوص الدينية. وهو أن هذه المناسبة الدينية "ذكرى مولد سيد الأنام محمد -صلى الله عليه وسلم-" فرصة لتقييم واقع ديننا وما يفترى عليه، لأن أكبر من أساء إلى الدين هم المتدينون أنفسهم بتأويلاتهم المتعسفة لنصوصه وجعل الدين وسيلة لأماني موهومة.
 

فالدين في أبسط معانيه يعني نسق تفسيري للوجود هدفه إضفاء المعنى لهذا الأخير ولحياة الإنسان، فهو بذلك أفق تحرري يحر الذات الإنسانية من بطش المعرفة المؤدلجة والقراءات المتطرفة لنصوصه التي تخالف الفطرة الإنسانية. فمعنى كون الدين يشتغل على إرواء الظمأ الأنطولوجي، هو أنه يشبع حاجات لا يمكن أن يشبعها العقل والخبرة البشرية، إنه يهتم بأزمة المعنى وسبل معالجتها، إنه يعالج فقدان معنى الحياة في عالم اليوم، وكيفية إنتاج هذا المعنى. وأية محاولة لنسيان مهمته في بناء الذات، وإقحامه في مجالات أخرى، يتحول معها إلى وحش مفترس، وسم زعاف يفسد كل شيء.
 

لكن لأسف الواقع يقول خلاف ما ذكرناه، فالمتتبع لمجريات الأحداث في مجتمعاتنا يلاحظ أن الدين تحول إلى وسيلة لتعطيل قدرات الإنسان وإخضاعه لأيديولوجيات تكبح أفقه التحرري، وقد تستساغ أحيانا تصرفات لاإنسانية ومعادية للفطرة بديباجات دينية ونصوص قرآنية. ناهيك عن جعل الإسلام وسيلة لحشد الجماهير المكلومة بنار الاستبداد والتخلف من أجل الوصول للسلطة ويلاحظ ذلك في أدبيات بعض الجماعات الإسلامية المسكونة بأحلام خلاصية.
 

ولا تصل هذه الأخيرة لمبتغاها إلا من خلال "أدلجة الدين". وهنا مكمن الخطر؛ لأننا نفرغ الدين من مضمونه ويفقد أصالته وفعاليته -وفق قول المفكر الجزائري مالك بن نبي-. وفي السياق نفسه، أذكر أنه قبل أيام وجدت فيديو يظهر طقوس أحد الفرق "الصوفية" بمدينتي، وشدني إغراء العنوان إلى مشاهدة الفيديو، لا أخفيكم أني تألمت عندما بدأت في مشاهدة تلك الحركات الفاقدة لأي معنى من عويل وصراخ وقفز إلى درجة الإغماء. تسألت مع ذاتي: هل هذا هو الإسلام، عندما يجعلك أسير أماني خلاصية فارغة وحركات بهلوانية؟
 

هذا مثال بسيط، ولعل ما تقوم به بعض الحركات الإسلامية من إقحام مفضوح للدين في صراعات سياسية هو أيضا لا يقلل ضرارا عن تلك الفرق الصوفية الأخرى. لذلك فالدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذي نرى ونسمع اليوم، ليس هو الذي يدعو إلى جعل مبلغ الطموح هو وصول إلى سلطة سياسية، ولا هو أذكار ممزوجة بعويل وإغماء، ولا هو دعوة لقتل الأخر بحجة أنه "الكافر"، ولا هو العيش من أجل استرجاع أمجاد ماضي تليد "خلافة".. إنما إسلام محمد هو الذي يقبل بالأخر، هو ذاك الدين الذي يهدف لتحقيق العدالة، لكن العدالة لا تمر من خلال "أدلجة الدين"، لأن "الأدلجة" تفسد الدين.
 

لا خلاص إلاّ بالخلاص من "أدلجة الدين" وإعادة الدين إلى حقله الطبيعي الذي هو بناء الحياة العرفانية والأخلاقية والعقلية في الإنسان بعيدا عن أي أوهام وأماني وسرديات فارغة.

الدين يتمحور هدفه العميق حول تأمين ما يفشل العقل والخبرة البشرية في تأمينه للحياة. الإنسان كائن لا يشبه إلا الإنسان، وهو الكائن الذي يفتقر إلى ما هو خارج عالمه المادي الحسي، خلافاً للحيوان الذي تتجاوز احتياجاته عالمه المادي الحسي. الإنسان في توق ووجد أبديين إلى ما يفتقده في هذا العالم، وذلك ما تدلل عليه مسيرة هذا الكائن منذ فجر تاريخه إلى الآن، بل أزعم أن هذه الحاجة مزمنة، وستستمر حتى آخر شخص يعيش في هذا العالم. وهو ما يُعبر عنه "الظمأ الأنطولوجي للمقدس" في حياة الكائن البشري.
 

والنتيجة التي أفضت إليها عملية أدلجة الدين هي عبودية الإنسان للأيديولوجيا واستلاب الأيديولوجيا لروحه وقلبه وعقله وإقحامه في أحلام رومانسية ووعود خلاصية موهومة، وبذلك يتحول الدين من نسق ينتج المعنى للوجود الإنساني ويجعله يرتبط باللامتناهي، إلى نسق يفقد الوجود من أي معنى، ويعيد اجتراح نفس الأزمة.
 

وعليه، لا خلاص إلاّ بالخلاص من "أدلجة الدين" وإعادة الدين إلى حقله الطبيعي الذي هو بناء الحياة العرفانية والأخلاقية والعقلية في الإنسان بعيدا عن أي أوهام وأماني وسرديات فارغة، وهذا لن يأتي عن طريق مراجعة الماضي ونقد التراث، والتحرر من سطوة السلف، وإعادة الاعتبار للبعد الإنساني في الدين؛ فالنزعة الإنسانية في الدين تستلهم الصفات الجمالية لله وأسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، القدوس، السلام، المؤمن، البارئ، المصور، الوهاب، الرزاق، البصير، العدل، اللطيف، الحليم، الشكور، الكريم، المجيب، الواسع، الحكيم..
 

وهذا الاستحضار الإنساني والجمالي للإله، يعاكس المقاربات السلفية التي تتكتم عن المعاني الإنسانية في الدين، لتنحت دينا خاصا بها، وتشكله في إطار وعيها وخلفياتها وتحيزاتها وافتراضاتها الذهنية؛ دين غريب عن الدين المؤسس.. دين مشبع بالإكراه والقيود والإصر والأغلال؛ أي مجموعة من المقولات والشعارات المغلقة التي تستنزف الطاقة الحيوية والإبداعية والإنسانية لرسالة الدين، وتحوله إلى ركام من الأعباء ينوء الناس بحملها؛ دين مملوء بقيم بدوية رديئة.
 

______________________________________________

المصادر:

– عبد الجبار الرفاعي: الدين والظمأ الأنطولوجي

– محمد همام: عبد الجبار الرفاعي ملهما للتفكير الديني الجديد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.