شعار قسم مدونات

هجرة إلى اللامكان

blogs-photo

كنا عشرة أشخاص نجول العاصمة الهنچارية بودابست. الجو كان خلاباً، نسيم منعش وسماء صافية، مشينا بضع كيلومترات لنتسلق أحد الجبال القريبة من المدينة، وبعد ساعة تقريباً كنا على أعلى القمة، منظر يطل على المدينة الواسعة، الشمس سقطت حتى شارفت على مجاوزة خط الأفق في شروق مهيب. من فوق المَطل كان السياح من كل لون وعرق، لكن هذا لم يكن ما لفت انتباهي، بل هو كثرة الكاميرات والفلاشات التي أفسدت جمال اللحظة. الكل ينظر إلى سعة الأفق من خلال شاشته الضيقة مختزلاً الحجم اللامتناهي في شاشة قطرها ٦-إنش. شعرت بالشفقة على هؤلاء الذين دفعوا الكثير لهذه الرحلة، وعلى نفسي، وعلى الجيل الذي يعيش وهماً اسمه العالم الافتراضي.

صحيح أن الحفاظ على الذكريات جميل، لكن الذكريات مكانها الذاكرة، ذاكرة الدماغ وليست شريحة التخزين. هي تلك الروائح التي نستنشقها لنتذكرها بعد سنين، والتي لا يمكن لأكثر الكاميرات تطوراً التقاطها، هي ذلك التأمل العميق الذي نعيشه والذي لا يمكن تخزينه على سحابة من البيانات. من الخسارة والغبن أن يصبح التصوير هو الذاكرة، وتبقى أرواحنا خالية من أي ذكرى، لنعود بعد سنين ونشاهد صور رحلاتنا وكأننا نشاهد قسم الصور في چوچل، محملين بالكثير من "الچيچا بايتس" والقليل من المشاعر.

الموضوع أكبر من التقاط صورة ونشرها، وأنها هجرة جماعية إلى عالم افتراضي لم يزل ينهش في واقعنا، هي هجرة حلت فيها برودكاست التهنئة مكان الزيارة الواقعية ومكالمات التهنئة الصادقة.

لكن الحقيقة أن التصوير له نشوة خاصة، أن تصور ما حولك ثم تنشره لأصدقائك وعائلتك أو حتى الغرباء. هناك جرعة من الدوبامين (هرمون السعادة) تنطلق من مكان ما عندما تقرأ تعليقاً يغبطك-أو يحسدك-على جمال اللحظة، لكن جرب يا صاحبي أن تكون أنانياً وتعيش الجمال كله لك لنفسك، جرب أن تترك هاتفك وكاميراتك في غرفة الفندق لتتجول بالكاميرا التي لا يمكن تعويضها، تلك التي تتميز بستمائة ميجا بكسل وذاكرة مفتوحة تبقى لك لآخر العمر. تنازل عن مشاركة الجمال مع الآخرين، وعش كل لحظة منه.

فوق الجبل، كان الجميع مشغولون بكاميراتهم، لكن كان هناك رجل عجوز يطل من فوق السور على الوادي والسماء التي اختلطت فيها جميع درجات الأزرق والأحمر والبرتقالي. كان الرجل بلا هواتف ولا كاميرات، يراقب الأفق الذي لم يسطع بنظره الضعيف أن يفصل بين انتهاء السماء وبداية نهر الدانوب. ربما كان يعرف هذا العجوز الحكيم بعد حياة طويلة أن جمال الذكريات يكون بعيشها، لا بالتقاطها سريعا، يكون بالذوبان فيها، بالوقوف في وسط غابة كما تفعل جذوع الشجر، أو بالسباحة على شاطئ البحر ليأخذه الموج مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال، ربما عرف بعد أن داعب النسيان ذاكرته أن حفظ اللحظات في ملف لا يعيدنا إلى اللحظة وإنما يفقدنا متعة عيشها.

 أعلم أن الموضوع أكبر من التقاط صورة ونشرها، وأنها هجرة جماعية إلى عالم افتراضي لم يزل ينهش في واقعنا، هي هجرة حلت فيها برودكاست التهنئة مكان الزيارة الواقعية ومكالمات التهنئة الصادقة، هو عالم صار المرء يشعر في أنه ساند قضية كبرى فقط لأنه أعاد نشر تغريدة أو أبدى إعجاباً، هو تحول أجبرنا على أن نملأ الشاشة بـ"إيموجي" يبكي من شدة الضحك، بينما نحن من خلف الشاشة عابسون لم يظهر لنا سن ولم يتسارع لنا نفس. هو عالم يحثنا على أن نظهر أجمل ما في يومنا وكأننا ملائكة أفلاطونية لا تواجه مشاكلاً ولا تعرف شعوراً من ثلاثة أحرف اسمه حزن. الموضوع أكبر من تصوير منظر من فوق جبل، هو استعاضة عن الواقع بالوهم وعن الفعل بالكلام وعن الذاكرة بالنسيان، عالمٌ فيه الناس موتى فوق الأرض، أحياء تحت شاشات أجهزتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.