شعار قسم مدونات

أخطاؤنا التى لم نرتكبها

blogs جمال
دائماً ما كانوا يخبرونا عن الأحلام، عن الطموح، ولكن لم يخبرونا يوماً أن أجمل أحلامنا ستكون يوماً هي أسوأ الكوابيس التي نواجهها، ﻟﻢ ﻳﺨﺒﺮﻭﻧﺎ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻬﺮﺍﺀ ﻓﻰ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ أﻭ ﻓﻰ ﻛﺘﺐ ﺍﻷﻃﻔﺎﻝ..

 

1

كعادتي كل مساء أنزوي خلوه في ظلام لا ينيره إلا ضوء قمر، مع قهوتي المسائية العربية المرة فهي ما تبقت لي من عروبتي، والكثير من الأوراق، وكعادة أوراقي ومقتنياتي مبعثرة، يختلط منها القديم بالجديد.
 

"ذات يوم سأصبح ما أريد" ورقة صغيرة زيلتها تلك الكلمات، لم تخلو مساحة الورقة من ثرثرات أحلام عادت بي قبل خمسة عشر عاماً، جملة تحمل بداخلها عشرات القصص والمحاولات، أياماً وسنوات عقبات تبعها استسلام وعثرات، فكم من أحلام أطفأنا شرارتها بداخلنا، وكم من أشياء وافقنا عليها مكرهين كيلا نبدو مختلفين عن البقية، كم استسلمنا وسلمنا أحلامنا للرياح وللخوف وغربت أوطاننا أحلامنا.
 

الأزمة الكبرى عندما تذكرت أننا أجبرنا يوماً على التخلي عن الوطن عن الروح عن الأحلام عن الأهل عن الأصدقاء أجبرنا على التخلي حتى عن أنفسنا عن ملامحنا، فبالكاد أعرفني، بالكاد أشبهني.

وقفت حينها كراشد تطارده أحلام طفولته شبابه أحلام أمسه، ككهلاً محمولاً بالأعباء والهموم، ملتفتا نحو الوراء محاولاً إيجاد وحدة تصلح لقياس المسافة التي ابتعدها عن الطفولة عن الأحلام والطموح.
 

وقفت أمام المرآة أتأمل سنين غربتي على وجهي، لطمتني كلمات الورقة ولكن لم تكن لطمتها التي نحتت وجهي فتغيرت ملامحه مثلما تغيرت الروح والقلب، الأزمة الكبرى لم تكن فقط في تلك الاحلام ولا في تغيير الطريق، الأزمة الكبرى عندما تذكرت أننا أجبرنا يوماً على التخلي عن الوطن عن الروح عن الأحلام عن الأهل عن الأصدقاء أجبرنا على التخلي حتى عن أنفسنا عن ملامحنا، فبالكاد أعرفني، بالكاد أشبهني.
 

الأزمة الكبرى هي أنني لا أمتلك وطناً الآن لأحنّ إليه، أو أبرر به انتزاع أحلامي، فإني قد انتزعته منذ الوهلة الأولي لخروجي منه خائفاً أترقب، ففقدت المشاعر الوطنيّة التي تقول أنها تشتاق إلى تراب، وبتّ غريباً كغربتي على أيّ أرض. فقطعت الورقة، واحتسيت قهوتي، وأكملت عملي، ثم خلدت إلى نوم عميق.

 

2

تقول: كنت في الثانية عشر من عمري حينما سألت معلمتي ذات يوم عمن لديه قصة يرويها أو خبراً يقوله، فرفعت إصبعي وقمت فأنا التي ما نمت ليلتها أنتظر الشمس تشرق ظناً مني أن العالم سيهتز، فهنا تأتي الفرصة ربما لم يسمع العالم فأسمع أنا زملائي وقولت:" شاهدت بالأمس خبراً هز أضلعي فقنبلة تلو الأخرى تزج ببقايا البيت، صراخٌ في الشوارع وولولةٌ تتناهى إلى سمعي، صغيراً مثلنا يقصرنا طولا ويصغرنا حجماً مغطي وجهه بالدماء يمسك دميته التي لم يصبح يمتلك غيرها، يتمتم بكلمات بالكاد تخرج من فمه محمولة بالدماء.. فلسطين التي قصفوها من جديد بقايا البشر والدم المسفوح والبيوت المهدمة والأطفال الميتمة والفراشات المذبوحة العاجزة".
 

لم تصفق لي المعلمة، ولم تغمر وجنتيها الدموع، لم تبتسم لم تبكي، عنفتني وقالت: "لا مجال للحديث هنا عن مثل تلك الأخبار، لا شأن لنا بذلك." تذكرت درسا عن العروبة، فوجدت أنها كانت بين سطور في كتاباً مضي وأغلق بعد انتهاء امتحانه.
 

3

قالوا لها احلمي ثم انتزعوا الحلم ففرضوا واقعاً، خضعت فاستسلمت فقبلت فتزوجت، فظلت ساخطة بداخلها دقات قلبها صرخات، أنجبت فاتأقلمت لتري صغارها يكبرون شبراً شبراً حتى يكاد أحدهم يبلغ طولها، علي أن أبتسم وأتهادى طوال الوقت وأن أربي أبناء صالحين وكأني أجلس على كرسي في ليلة صافية أتأمل صفاء السماء وأشتم الزهور، أكظم بركاني وأطفئ نيراني وأكبت أحلامي كما كبتت خمسة عشراً عاما، وقررت الآن أن أعيشها بكل ما فيها، قررت للمرة الأولى أن أقرر حقاً ما أريد. قلبت الطاولة رأساً على عقب فتركت كل شيء وذهبت دون عودة.

 

4

" إنه ذلك الخطأ الذي بعده لا تعود أنت…فإياك أن ترتكبه…بعده ستخسر أشياء كثيرة. ربما مكانك وزمانك.. وكيانك.. وربما تخسر نفسك.. ولن تعود كما كنت، انه ذلك الحلم.. الذي تخليت عنه وتركته وسقط منك.. فلن يعود بعد أن ضيعته بيديك " أيقظنا صوته بتلك العبارة بينما نحن منهمكين في العمل أن يلملم أفكاره، يستجمع عناصرها ففي عملنا بالكاد نستطيع لملمة الأفكار، ولكن ربما كلماته وتأثره بها أخرجتنا جميعاً من انهماكنا، لم تمر ثوان حتى عاد الجميع إلى عمله، عدا هي، ظلت شارده شاحبة اللون، غائمة النظرات، فظلت ذلك حتى انتهاء وقت العمل.
 

في الساعة السادسة مساءً، بينما يسقط قرص الشمس الغاربة في مياه البحر، هو موعدنا لأنهاء ساعات عملاً شاقة، وفى طريق كلاً منا إلى منزله نذهب سويا، حتى تفرقنا الطرق، ولكن في ذلك اليوم أظن أنها سلكت طريقاً اخر.

 

5

تقول رضوى عاشور في "صيادو الذاكرة": "عندما غادرت طفولتي، وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي، وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت، ولكني بعد بكاء وتفكير أيضًا ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة". عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: (ماذا لو أن الموت داهمني؟) وأيضًا لأنني تنبهت -وكنت في الرابعة والثلاثين من عمري- أن القبول بالنسبي أكثر حكمة من التعلق بالمطلق، وأن الوقت حان للتحرر من ذلك الشعور بأن عليَّ أن آتي بما لم يأتِ به الأوائل أو أدير ظهري خوفًا وكبرياءً".
 

من الجيد أن تعرف نفسك، خيباتك، سقطاتك، عثراتك، من الجيد أن تواجه نفسك.. ولكن ليس من الجيد أن تتجاهل شغفك وروحك وحدسك وأحلامك..

ذكرتني كلمات رضوى بحديث أمي حيث تقول أنى قد أصابني "البرود"، تقول وهي في شدة الغضب، في الحقيقة أنى أصبت بداء التجاهل، حتى أصبحت أتجاهل نفسي التي بين جنبي، بالرغم أنى دائمة البحث، شديدة الشغف، ملحة السؤال.. ولكن أتجاهل كل تلك الاشياء أضعها في زاوية مظلمة..
 

شديدة التيه أنا أصبحت، أتذكر حين سألني أحدهم مؤخراً عما أطمح أن أصل له.. قلت أشياء جميعها مضادة للأخرى لا علاقة لواحدة منها بما تتجه فيه الأخرى، أصبحت لا أعلم في أي اتجاه أسير وإلى أي طريق. أصبحت جيدة للغاية في إضاعة كل ما حصلت عليه وعملت له منذ سنوات، بل وأصبحت بارعة في نسيان أو تناسي ما يجب على فعله كل يوم، أصبحت متميزة في تجاهل كل ما أمتلكه من قدرات..
 

من الجيد أن تعرف نفسك، خيباتك، سقطاتك، عثراتك، من الجيد أن تواجه نفسك.. ولكن ليس من الجيد أن تتجاهل شغفك وروحك وحدسك وأحلامك.. أنا لا أحزن على خسائري أبداً، أسخر منها دائماً، لكن أبكي أحياناً أو تخونني دمعة تسقط سهواً مني عند تذكر الأحلام الضائعة في ظلمة الدهر.
 

أتذكر حين كنا يوماً صغار كان يسهل إقامة علاقات جديدة، كانت الأحلام سهلة البناء، لأننا لم نكن نولي اهتماما للتفاصيل مادام الوقت ممتع والجميع حولنا، وأحلامنا تتشكل كالصلصال في أيدينا، بينما نهتم كبالغين، محاطين بالشكوك والوساوس.
 

وفي الصباح أنتظر الشمس تخترق ستائر غرفتي لأكمل خيباتي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.