شعار قسم مدونات

وما شأن الأطفال بذلك؟

blog-الأطفال

فى ليلة ساكنة، لا يعكر صفوها إلا تعب التحضيرات، وقبل الموعد بأربع وعشرين ساعة تجلس ويجلسون لتبدأ الاستعدادات،  بدأ بإعداد وجبات لا تفسد مع ارتفاع  درجات الحرارة التى تأمل أن تهدأ من أجلها، فى أمتعة كبيرة، أكبر مما تحمّله من هم  فى قلبها، ثم باقى التحضيرات.

لم تتعد أسماء الـ7 سنوات، تصحب معها دميتها الجديدة ووردة وورقة خطّتها يداها وكانت تعدها طوال الأسبوع تكتب فيها ما لملمته من أحرف تسرد فيها اشتياقها وبكاءها وأحداثها الكبيرة الصغيرة في مدرستها، وتحكي له عن درجات تفوقها وعن النجمة التى وضعتها لها مدرستها بالفصل.

الشيطان ربما استغنى عن أعماله لهؤلاء القوم ليحرموا طفلة من الاقتراب من أبيها لاحتضانه، للشعور بدفء قلبه

تحمل أسماء حقيبتها الصغيرة التى جمعت فيها كل الأغراض التى يمكن أن تشارك بها والدها للحظات لا تتعدي خمس دقائق ربما إن حن قلب السجان تصل إلى العشر، بعد أن تقف الصغيرة تحمل دميتها  لتقف في صفوف طويلة ساعاتان ، ثلاثة ، أربعه ، خمسة ربما ، لاتعرف ما هذا المكان ولا تعرف من أولئك الناس ، لا تعرف لما يعيش أبوها به،  ولما قرر الإبتعاد عنهم،  لم تنفك مرة حتي تسأله ذات السؤال " أأنت غاضب مني .. لما أنت هنا ونحن هناك .. لما لا تعود معنا ..

هل تركتنا لشقاوتي الدائمة هل لتلك المرة التى لم أسمع فيها كلامك فغضبت مني ، فأنت من حينها وأنت هنا ، أعاهدك ألا أفعلها مجددا"، ومن ثم تخرج له كراستها فلربما يفرح بدرجاتها ويعود معهم ،  ثم تخرج الوردة لعلها تحيي حنينه إلى البيت واهمة أنها ستعود متأبطةً به إلى منزلهم .

تذهب أسماء إلى البيت لتكررعلى والدتها الأسئلة ذاتها عن أبيها ، وبعد أن تيأس، من إيجاد إجابة تقنع عقلها الصغيرتذهب ، فتكتب ، فتسرد ، تحاول بخطوط غير منسقة  أن تجد إجابة لنفسها،  فتبكي وتنام .

وبالإشارات وهمسات الشفاه وتعبيرات الجسد،  تجلس في القاعة الكبيرة،  وسط أولئك الذين لا تعرفهم، تحدق في كل الوجوة لتراه فلربما تغييرت ملامحه،  ولكن جديرة هي على التعرف عليه بقلبها،  فترمقة بين الداخلين في يدية أساور السجان.

فكرت في أن الشيطان لربما استغني عن أعماله لهؤلاء القوم ليحرموا طفله من الإقتراب من أبيها لاحتضانه، للشعور بدفئ قلبه،  فهي لا تستطيع الإقتراب، فتشير من بعيد،  "أحتاج إلى حضنك"، "لا أستطيع أن أنام بدونك" ، ثم تهز برأسها "انا بخير لاتقلق"، قالتها إحداهن ذات الإحدي عشر عاماً داخل قاعة المحكمة وهي في انتظار أبيها.

سألت صديقتي التى يمنع عنها الزيارة بالشهر وربما الشهرين أحياناً ذات مرة،  ما حال ابنتك ذات السنوات الست تجاة الزيارة،  تجاة  أبيها ، تجاة الأحداث فتقول : تقول لي ابنتي وهي تبكي أنها أحياناً لا تستطيع استحضار صورة أبيها تحاول فيصطدم خيالها بالفراغ ، فأريها صورته ، وأحاول أن أضعها لها دائماً بجانب وسادتها ، أحاول دائما بين الحين والآخر أن أفتح لها ذاك الصندوق الذى نحمل فيها ذكرياتنا، الهدايا ألبومات الصور،  وكل ما أحضره لى ولها والدها لأذكرها به .

سيظل أولئك الأطفال وحدهم من يحملون في ذاكرتهم كل تلك الأحداث، وهم وحدهم من سيدفع ثمنها

وتستأنف صديقتي حديثها "عامان ولم تنسي ابنتي تتذكر ماحدث في فجر بيتنا قبل عامين كانت نائمة لتستيقظ على أصوات عالية وفوضى عارمة وأغراباً بالبيت يرفعون سلاحاً في وجه أبيها،، ومن ثم يأخذونة معهم دون رجعة حتي الآن، كانت حينها ذات الأربع سنوات،  أتذكر عندما طال الوقت ولم نعرف عنه شيئا لأربع أشهر ويزيد كانت تستيقظ كل يوم  من نومها باكية وتسألني هل مات أبي .. هل مات مثلا الأرنب الذى اشتراه لى ؟"

اتساءل أحياناً ما شأن الأطفال بذلك؟لم يستشِرهم أحد في شأن القضية،  ولم يسالهم أحد عن رأيهم في الأحداث،  ماذا لو لم يكن بوسعهم تحمل كل ذلك ، ماذا لو لم يكن في قدرتهم تحمل كل تلك الأعباء
ما شأن الأطفال بالحروب وبالقتل وبالسجون،  ما شأنهم بعالم بائس تملئه الضغينة،، ما شأنهم في أن يستيقظوا ذات يوم ليجدوا دنياهم فارغة من والديهم من أمامهم، ما شأنهم في أن يعلموا مبكراً أن تلك هي الدنيا وتلك هي قضاياها وحروبها.

حتى إن انتهت القضية،  فسيظل أولئك الأطفال وحدهم من يحملون في ذاكرتهم كل تلك الأحداث،  وهم وحدهم من سيدفع ثمنها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.