شعار قسم مدونات

غاوجي!.. (في الهوية الملتبسة)

blogs - mask
أقدّم بطاقة هويّتي للموظّف الرسميّ في أحد الدوائر الحكومية الأردنية، منتظراً السؤال المعتاد "غاوجي! مترافقة مع ارتفاع أحد الحاجبين، من وين؟". أُجيب بابتسامة وطنية تعرف مسبقاً أنّ جوابها غير مقنع "من عمّان".. ينظر إليّ الموظّف ليتأكّد من أنني لا أسخر منه "اه، بس الأصول من وين؟" أجيب بامتعاض (وطنيّ أيضاً) "أصولي من دمشق، موجود عندك عالكمبيوتر".. يأتي الجواب عادة "أهلاً وسهلاً"!

كيف لي أن أخبر هذا الموظّف أنّ "أهلاً وسهلاً" هذه هي أوقح عبارة يمكن أن يقولها في هذا السياق، كيف له أن يفهم أنّ هناك فكرة اسمها المواطنة، وأنني وفق دستور بلده/بلدي المحترم مواطن مثلي مثله؟ أقول لنفسي بملل "لا يهمّ طالما أنّه لن يُقدّم أحداً عليّ في الدور" أسكت وانتظر انتهاء المعاملة.

أبناء الأقلّيات يختارون العيش في دوائر اجتماعيّة مغلقة، ولما لم يكن هذا الحلّ مقبولاً بالنسبة لي آنذاك فقد بدأت أتقن لهجة المجتمع الغريب حتى أَصبَح تمييز أصولي أمراً متعسّراً

دائماً ما كان اسم عائلتي مربكاً ومشوّشاً: غاوجي، هذا الاسم الذي يعود في جذوره إلى إحدى قرى شقودرة/شكودرة في الشمال الغربيّ من ألبانيا، والذي جرى تحريفه عن "جفوتشي" بالجيم غير المعطّشة، والذي بحثت دون جدوى، حتى الآن، عن معناه في لغته الأصل، اللغة التي كان نرى جدي يتحدّث بها مع والدته وأخته دون أن نفهم منها حرفاً، والتي جاء بها من ألبانيا قادماً إلى دمشق بحراً بعمر الثالثة عشرة، ثمّ إلى مصر ليدرس العربيّة، التي ألّف بها ما يزيد عن أربعين كتاباً لاحقاً، ثم ليتابع دراسته في الأزهر الشريف، عائداً إلى دمشق ليلحق بأبيه الذي سافر بأهله بعيداً عن بطش الحكم الشيوعيّ الذي أعلن ألبانيا لاحقاً الدولة الملحدة الأولى في العالم!

تزوّج جدي من أخت شيخه الحموي، والذين تعود أصول عائلتهم إلى أكراد تركيا.. لم تكن الهويّة والأصول أقلّ التباساً في عائلة أمّي، فجدتي لأمّي تركيّة الأصول، وكان والدها لا يزال يتحدّث التركيّة ويُدرّس الفقه الحنفي للطلبة الأتراك بها في دمشق، وجدّي لأمي من عائلة الطباع الدمشقّية، والتي تتشعّب جذورها في غزّة والعراق وتجتمع، كما اكتشفت العائلة بعد فحص شجرة النسب، عند سيدي الحسن ابن علي وفاطمة.
 

في طفولتي، وطفولة إخوتي، كان هذا الخليط الهويّاتي مأزقاً يوميّاً، فقد ولدت في الخليج، ودرست في مدارسه، حيث يكفي أن تقول كلمة واحدة بلهجتك الشاميّة لتنبعث الضحكات في أطراف الفصل الدراسي، وتُبتكر في وصفك ألقاب وأوصاف تفهم بعضها وتدرك شناعةَ بعضها الآخر دون أن تفهمه.

عادةً ما كان أبناء الأقلّيات يختارون العيش في دوائر اجتماعيّة مغلقة، ولما لم يكن هذا الحلّ مقبولاً بالنسبة لي آنذاك فقد بدأت أتقن لهجة المجتمع الغريب حتى أصبح تمييز أصولي أمراً متعسّراً. لهجةٌ للبيت، ولهجةٌ للشارع. ومع كثرة التنقلات بين البلدان واللهجات، لم أعد أعرف أية لهجة أتحدّث حقّاً، وصرت أختار لهجة حديثي بكبسة زرّ تتلاءم مع من أتحدّث معه، حتى إن كانوا أهلي.

كان الاندماج مع المحيط الاجتماعي، الذي كان يبدو لي منسجماً وموحّداً، هاجساً دائماً بالنسبة لي في طفولتي، وكان الاغتراب والانفصال عنه قدراً طبيعياً أحمله في عروقي. والحقيقةُ أنّ هذا الانفصال القسريّ، عن أيّ جماعة اجتماعيّة خلّف آثاراً صعبة في داخلي في فترات مضت من حياتي، حتى أنني في لحظة ما، لم أكن أعرف كيف عليّ أن أتحدّث مع نفسي داخلياً، وكنتُ أشعر بأنّ أيّ اختيار واعٍ للحديث، هو افتعال يُخرج المونولوج الداخلي عن تلقائيّته.

كما إنّ الأزمة الكبرى كانت بالنسبة لي، هي أنني لا أمتلك وطناً لأحنّ إليه، أو أبرر اغترابي الدائم بالابتعاد عنه. ولم أكن – ولم أزل- أفهم المشاعر الوطنيّة الجياشة التي تشتاق إلى تراب دون غيره وإلى أهل دون آخرين، وتستدعي كلّ هذا الرقص وكلّ هذه الطبول الحماسيّة، فحتى الشام، على هشاشة جذوري فيها، لم أرها، وحتى لهجتها الناعمة تكسّرت واخشوشنت مع السنوات، وبتّ غريباً عنها كغرابتي على أيّ أرض.

ربما يُشاركني الكثيرون أو القليلون في شرط الوجود الاجتماعيّ هذا، ربما اختار بعضهم الانكفاء في جماعة أقلّية، وربما اختار آخرون الاندماج في محيط منسجم يواري هذا الالتباس في الهويّة ويمحو تركيبيتها في وحدة الجماعة.

ولا شكّ أننا، معشر الملتبسين، نعاني الأزمة مضاعفةً في مجتمعات لا تتسامح بسهولة مع الاختلاف، وتتعامل مع الملتبسين بمنطق الضيف أو المنبوذ، لا بمنطق النديّة والاعتراف. يتمتّع هذا التمييز الاجتماعيّ بسند قانونيّ بطبيعة الحال، بل إنّ بعض دولنا تميّز الأصول بأحرف مثبتة في جوازات السفر وبقيود اجتماعيّة تثبت الأصول، وتذكّر الناسي بأنّك لست من هنا.

حين قضيت في كندا ثلاثة أشهر قبل صيفين، لم أجد من أشرح له قصة هويّتي، لأنّ أحداً ببساطة لم يسألني، واكتشفت لاحقاً (وأنا أحمل الجنسية الكنديّة) بأنّ القانون يجرّم السؤال عن الأصول، كلنا غرباء في هذا المكان، لا أحدّ أحقّ بهذا البلد من أحد.

لم يعد يؤرّقني هذا الالتباس، بل صرت اعتبره امتيازاً يُتيح لي التسلل إلى أيّ نسيج اجتماعيّ، وفكّ رموزه وتكويناته، وصرت أراه فرصتي الوجوديّة في ألا ينحصر انتمائي إلى قوم أو عرق، وألا أهاب التجدد والانفتاح على ما يبدو غريباً، فكلّ شيء غريب في نهاية الأمر وبدايته.

كلنا غرباء هنا وفي كلّ مكان، كلنا فريدون ومنبوذون ومختلفون وملتبسون، فقط صارحوا أنفسكم بذلك، وتصالحوا معه، وستكتشفون أنّ الأمر ممتع حقاً!

ولكنّ ما بات يؤرّقني هو أنّ البشر لا ينتبهون إلى هشاشة ما يظنونه جماعات متجانسة، فعند التعمّق في البحث، تظهر الهويات الاجتماعيّة باعتبارها سرديات هجينة دوماً، كما يقول هومي بابا، وتظهر الهويات الوطنيّة، التي تقوم القوميات على أساسها، باعتبارها هي الأخرى بنت مشارب شتى لا تنتهي، وباعتبارها هويّة تمّ التواضع والاتفاق عليها في زمن ما ولظروف تتصل بنشأة الدولة ما بعد الاستعمارية، في منطقتنا بخاصة. ولعلّ الحالة الأردنيّة تمثّل نموذجاً مزدوجاً لهذا الشتات في الأصول، ولهذا التمييز القائم على وهم الهويّة الأصلية النقيّة الموحدة.

كان يمكن لعمّان أن تكون حاضنة لكلّ الغرباء، فهي مدينة بلا جذور اجتماعيّة عميقة؛ لا أحد من عمان، هكذا يقول الجميع. ولكنّ الدولة تصرّ باستمرار على ترسيخ هويّة وطنيّة تقوم على تاريخ متوهّم، لا على مستقبل مفتوح، وبدلاً من أن يندمج البشر، أياً كانوا، في نسيج مجتمعاتهم، التي ولدوا أو استقروا بها، وبدلاً من أن يتشاركوا في الانتماء إلى هويّة (مُتخيّلة مفتوحة) تقوم على الاعتراف فيما بينهم والتشارك في المصير وإرادة الخير العام، فإنّ البشر يُصنّفون بحسب أماكن ولادة أباءهم وأجدادهم.

وما يؤرّقني أكثر، ويخرج عن سياق الموضوع والمقال، هو الكيفيّة التي يصرّ بها البشر على قصر انتماءاتهم على هويّة واحدة، وطنيّة أو دينية أو قوميّة، لا باعتبارها شرط ولادة الذات، بل باعتبارها نهاياتها القصوى التي تعيش حياتها لتأكيدها. كلنا غرباء هنا وفي كلّ مكان، كلنا فريدون ومنبوذون ومختلفون وملتبسون، فقط صارحوا أنفسكم بذلك، وتصالحوا معه، وستكتشفون أنّ الأمر ممتع حقاً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.