شعار قسم مدونات

سوف نبقى هنا

blogs - syr
مدينة الرقة التي شغلت العالم وكيف كان ثاني أيام تحريرها من يد النظام
مدونة التحرير(2) – ٣/٣/٢٠١٣
اليوم الثاني
"سوف نبقى هنا.." 
الثالث من مارس/ أذار ثاني أيام التحرير، ليلة فراتية شديدةُ البرودة، في سريري ألتمسُ بعض الدفء محاولاً تناسي ذلك الخبر الذي تتداولهُ تنسيقات الثورة أنهُ بعد كلِ عمليةٍ نوعية للجيش الحر تقومُ أجهزة الأمن بحملةِ دهم وأعتقالات وخاصةً لإولئك الذينَ كانوا قد أُعتقلوا سابقاً محاولاً تجاهلَ فكرة أني معتقل لثلاث مرات، كان هدوءُ هذه الليلة مخيفاً -الهدوء الذي يسبقُ العاصفة -هدوءٌ جعل للنوم لذة الهروب من المجهول.
الساعة الثامنة صباحاً استيقظتُ على صوت طيران الميغ الذي يقومُ بشنِ غاراتٍ على أطراف المدينة الشمالية، وخاصة بعد أن قام الثوار والمجاهدين بنصب الحواجز على أطراف المدينة، وضرب حاجز السباهية والتراجع ليلاً، كان صوتُ الميغ وخاصةً عندما يفتح جدار الصوت فوق المدينة يدبُ الرعبَ و يبعثُ رسالةً مجازُها أنَ الثمن سيكونُ غالٍ إن حاولَ الثوار دخولَ المدينة ، لكن ما كانَ يُطمئن القلوب هو أن الهيئة الشرعية أصدرتَ فتوى بتحريمِ دخول المدينة حتى تحرير الفرقة ١٧ واللواء٩٣ ومطار الطبقة العسكري لِعلمنا جميعاً أن النظام سيتَّبعُ سياسةَ الأرض المحروقة في حال دخول الثوار للمدينة ولن يفرقَ بين مؤيدٍ ومعارض ولا بين مدنيٍ وحامل سلاح.
مدينة الرقة في هذهِ الأيام "سوريا المصغرة" البسيطة الشرقية الجميلة لو تجولتَ في أسواقها لسمعتَ جميع اللهجات ، ماأروع أن تشُم رائحة الكبة الحلبية في شوارع مدينتي ولا أروع من طفلٍ حمصي يحاولُ الحديثَ معك بلهجتكَ الرقاوية الثقيلة ولا أحلى من عائلةٍ ديرية تجلسُ على ضفافِ الفرات تناجي الجسر المعلق ،مدينتي كانت الملجئَ الوحيد لأهلنا في المناطق الساخنة يقدَّرُ تعداد أهالي الرقة وضيوفِها بأكثرِ من مليوني نسمة أغلبُهم من حمص وحلب ودير الزور.
صباح الرقة يختلفُ عن أي صباح فلنسماتِ البرد المندى برائحةِ الفرات طعمٌ آخر ولدفئِ شمسها حنانٌ آخر، في هذهِ الأثناء يتصلُ بي أحدُ أبناءِ عمومتي وهو مقاتل في الجيش الحر، ليبلغني بضرورة قدومي للقرية وفي ما إذا كان بأمكاني أن أحضر معي طبيباً أو مسعف أخر، أدركت أن هناك أمراً مهم، تقعُ قريتي في الريفِ الغربي غافيةٍ على ضفافِ الفرات وعلى بعدِ خمسة كيلومترات من حاجز السباهية الذي لايزالُ في قبضة النظام ، إرتديتُ ملابسي وتوجهتُ للقرية، وعندَ مقابلةِ لابن عمي أخبرني أن أكونَ جاهزاً لأي طارئ لأنَ عمليةَ تحرير حاجز السباهية ستبدُأ بعد قليل.
 
شهدت السباهية نزوح الأهالي، فمنهم من قرر البقاء وقال "لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا" ومنهم من قال "اعقل وتوكل" وقرر النزوحَ لمناطق أكثر أمناً.

شاركَ في هذهِ العملية كتائبُ المهام الخاصة وكتائبُ الفاروق وحركة أحرار الشام وجبهة النصرة ولواء أمناء الرقة ،بدأت العملية بعدَ أن قامَ بعضُ المجاهدين بالدخولِ من الجهة الشمالية الشرقية أستطاعوا محاصرةَ الحاجز بالكامل ،بقي الحاجزُ صامداً لأكثر من ثلاث ساعات وذلك لتمركزِ القناصة على سطحِ المبنى مما أعاقَ التقدم، تسلَّلَ أحدُ المجاهدين وقتلَ القناصَ الأول ليتبينَ في مابعد أنَ المقدم المسؤولَ عن الحاجز قد هربَ مع عدد من العناصر بعد أن فشِل في جِلب المؤازرة من داخلِ المدينة ،وبذلكَ تكونُ الخاصرة الغربية للمدينة فُتحت ولم يتبقى للنظام سوى حاجز المقص وحاجز باب بغداد ،سبحانَ الله أعبرُ صباحاً من حاجزٍ بيد النظام لِأعود من نفس الحاجز لكن هذه المرة بيدِ الثوار.

شهدتْ منطقة السباهية نزوحاً للأهالي وخاصةً عندما بدأتْ مدفعيةُ مبنى الأمن العسكري والمخابرات الجوية بقصفها ، الأهالي في هذهِ المنطقة من الطبقة الفقيرة منهم من قررَ البقاء وقالَ "لن يصيبنا إلا ماكتبَ الله لنا" ومنهم من قال "إعقل وتوكل" وقررَ النزوحَ لمناطقَ أكثر أمناً.
دخلت المدينة… لا وجود لعناصرِ النظام لا دوريات في الشوارع حتى الحياة المدنية شبهُ منعدمه ،الشمسُ بدأت بالمغيب والظلامُ أسدلَ ستائرهُ… التوتر يتملكُ الجميع والكلُ يسأل ماذا بعد؟ ليأتيَ الردُ خلال دقائق بأنَ الثوار يشتبكونَ مع حاجز باب بغداد والنتيجة إنسحاب عناصر النظام لداخلِ المدينة وأسرِ إثنينِ ممن قرروا الصمود ،الأحداثُ المتوالية كانت تصدمُ كلَ من يسمعها. أخبرتني والدتي أنَ لن نبيتَ اليوم في بيتنا بل في بيتِ خالي الذي يقعُ في منطقةٍ شعبية حيثُ أنَ أغلبَ سكان ذلك الحي تربُطهم صلةُ القرابة ففي حالِ داهمني الأمنُ هناك أستطيعُ الهروبُ من فوق أسطحة البيوت العربية .
الساعة الحادية عشراً ليلاً الكهرباءُ مقطوعة عن كاملِ المدينة فقط ضوءُ المدفئة من ينيرُ عتمةَ الغرفة الرياحُ قوية في الخارج ،فجأةً تندلعُ إشتباكات قريبةٌ هذهِ المرة، داخلَ المدينة صعدتُ مُسرعاً لسطحَ المنزل، صوتُ الرصاص قريب، وأجملُ ما كان يشقُ ظلامَ الليل هي تكبيراتُ الثوار نعم كنتُ أسمعها بوضوح ،ماأروعها من تكبيرات يرتجفُ لها القلبُ خشوعاً وتُطربُ لها الأذنُ شوقاً، على الفورِ إتصلتُ بمنزلِ خالتي القريبِ من صوت الرصاص، جاوبتني إبنةُ خالتي وفي صوتها خوفٌ لتخبرني أن الثوارَ حرروا مبنى الهجرة والجوازات وتابعوا تقدمهم إلى ساحةِ المقبور حافظ وسطَ المدينة وإشتبكوا هناك مع عناصرِ الشرطة العسكرية، وبإنَ شاباً يعصبُ رأسه بعصبةٍ مكتوبٌ عليها "الله أكبر" قد أرتقى شهيداً وهو الأن محمولٌ على أكتافِ إخوانه لتعلو التكبيرات فرحاً بإستشهاده..
 
كان صوتُ الرصاص قريب جداً، وأجمل ما كان يشق ظلام الليل هي تكبيراتُ الثوار.

عادوا به إلى أطرافِ المدينة، عادوا كي لا يفوتهم وداعُ أخٍ غادرهم للتو، عادوا لكي يطبعوا على الجبينِ قبلةَ الوداع ،عادوا وفي طريقهم ينشدون له " يا نجومَ السماء .. يا عبائقَ النسم ..يا سحائبَ الرجا .. يا طيورَ الحرم .. يا رعودْ الشتاء .. يا جميعَ الأنام … اشهدوا هذا المساء .. إنني قلتُ القسم …سوفَ نبقى هنا .. كي يزولَ الألم " .

بهدوءٍ أطوي صفحة ثاني أيامِ التحرير وأتركُ شوارعَ الرقة تودعُ إبنها، فجدرانُ المنازل تحكي لهُ ذكريات الطفولة وباحةُ المدرسة تنعي شهيداً جاءها طفلاً وودعها رجلاً..
 

هنا الرقة.. يتبع

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.