شعار قسم مدونات

سعيُكم ليس مشكور

blogs- غرق رشد

غرقوا؟ وماذا بعد؟ رشيد؟ أطفال؟ كم الآن؟ ١٥٤ جثة؟ عنوان عريض؟ تفاصيل مهمشة؟ هجرة غير شرعية؟ هرب؟ حلم؟ أي حلم؟ شير؟ لايك. 
 

-صمت- 
عُذراً لأنهم لم يوافقوا معاييركم للتعاطف، عذراً للونهم الداكن وجنسيتهم المصرية، عذراً لفقرهم الذي لم يلفت انتباهكم، عذراً لأنهم ليسوا موتى على المستوى الذي يليق بكم، أو ربما في نظركم استحقوا الموت، هجرة غير شرعية من أرض الكنانة! أهذا وطن يُترَك؟ 

أين نحن من كل ذلك الفساد؟ في أي نقطة ضعنا في كل ذلك التيه؟ أين تلاشينا حتى أصبح وجودنا عدم محض؟ ندور في دوائر ضيقة، منتهاها يوشك على مقابلة مُبتدأها، متى رفعنا صوامع حديدية على حياتنا وعزلنا حالنا، متى أصبحنا ضئيلين لهذا الحد؟ 
 

تُدرك كم الأسى وراء ذلك الشريط الأحمر الذي نراه في الأخبار على شاشات التلفاز المسطحة التي تتسع بعرض الحائط!

كيف تناهت أصواتنا لتصل لهذه الدرجة من الصمت المطبق؟ وسط آلاف النداءات والاستغاثات والصراخات المدوّية؟ متى خُتم على أسماعنا حتى أصبحت لا تسمع؟، لا تسمع ما هو جليل الصوت.. صداه موجع ومدوٍّ في الأرجاء! متى طُبع على قلوبنا حتى باتت لا تشعر؟ لا يخترقها أية شعور سوى اللاشيء.. اللاشيء الذي تظنه كل شيء، كيف اختزلنا حياتنا في كل هذا الضيق البِرح وسط كل هذا الفراغ؟ كيف تنفّسنا هواء معدوم وظنّنا النجاة؟!

كيف باتت أقسى مشاكلنا فراق حبيب، أو زيجة غير سوية، قطع الوصال، وظيفة غير مرجوّة، أموال قليلة، مشاحنة عابرة وصديق تخلّى.. وغيرها من الكبد الذي نُبكيه في بيوتنا الفارهة في غرف مكيفة وأياد كثر تواسي وتحن على ظهورنا! اتسعّت الأكتاف ووهنت -بشدة- الظهور.

نغلق أعيننا عن ضياع كنا أول التائهين فيه، عن أطفال مشرّدين، مخطوفين في أياد مجرمين تحت اسم متسوّلين يطوفون بهم في الشوارع ونمد لهم أيدينا من سيارتنا المكيفة لنضع بعض النقود في أيديهم كهدية عينية لمجهوداتهم في الروع، الخطف، تكميم الصراخ والبتر! كيف تناهت تلك الصراخات إلى أسماعنا لتصبح بذلك الصمت.. لتصبح جزء من العدم الثقيل الذي نعيش بداخله!

أين نحن من أفارقة، لم يقترفوا ذنباً سوى لونهم الأسود! أين نحن من كل تعذيب حصلوا عليه، ظنوا -بالنهاية- انهم استحقوه، ظنوا أنه ثمنٌ وجب عليهم دفعه.. إما لفقرهم، لونهم أو ضعفهم، ظنوا أنه قانون الحياة المُطبّق لا محالة..
 

اللعنة على الصمت! اللعنة على صمت جعل منهم من يحرق حاله مستسلماً حتى يتخلّص من لونه، من عذابه الذي ولد به.. فينتهي معه إلى الأبد، لينتهي وليتحرّق فكل المحروقين، سود على أية حال، سوادٌ فوق سواد، جلود عارية، جائعة، مقطّعة، أعضاء متناثرة، بضاعة في هيئة بشر.. بضاعة رخيصة، يكسب من بيعها أصحاب النفوذ والألقاب العدة في مكاتبهم الفارهة وبدلاتهم الأنيقة ولقائتهم التليفزيونية. 
 

ضحايا مركب رشيد وغيرهم آلاف من المراكب لم تشهد إلا المصير ذاته أو آخر أشد قسوة، قد ماتوا منذ زمن بعيد، منذ جوعهم وفقرهم وتعذيبهم فيما يُسمى بأوطانهم.

ناهيك عن أولئك، تُدرك كم الأسى وراء ذلك الشريط الأحمر الذي نراه في الأخبار على شاشات التلفاز المسطحة التي تتسع بعرض الحائط! تُدرك كم الآهات، الإغماءات، الوجع، الألم، الصراخ والنحيب وراء جملة عابرة تحمل كلمة "تفجير"، "قصف"، "مجزرة"! .

تُراك كم أم فقدت ابنها وسط الأنقاض كان بين أيديها منذ دقائق، كم ذكرى بقيت لها من ملابس صغيرة لا تتجاوز يديها ورسومات غير متقنة، وكلمة "ماما" التي حُفرت في أذنها لتقتلها رويداً للأبد.

أما عن تلك الطفلة المعفّرة تتوه بين البيوت المهدومة تنوح وتصرخ بحثاً عن أخيها الأكبر وأبيها، عن جثمانهما حتى! فقد ماتت أمها منذ سنوات في حادث مشابه، تتساءل عن مصيرها؟ 

دعني ألخصه لك، ستتوه بلا ملجأ، ستصرخ بأعلى صوت في الفضاء، ستُذاع صورتها صارخة وسط الأنقاض ويتقاضى المصوّر أجراً مقابل صورتها العظيمة، ستكون الصفحة الأولى في الجرائد ويتحدث العالم عنها يوماً في "عالم افتراضي" صامت. 
 

أما هي.. فستنتشلها إحدى الملاجئ الشعبية حيث الخيم المُشرّعة وأصحاب المصير الواحد، سيُمزّق ثيابها ويُقضى فيها حاجة من أراد، ستُكبّل وسط صراخ طويل، وستضرب وتصفع حتى تخضع.. أو لا تخضع، فعلى أية حال أحياناً استغاثتها تكون ممتعة كذبيحة ترفّس للنجاة، ستصدر أول صرخة عالية، ثم تُبحّ، ستُنتهك كل معاني الرحمة من قلبها بعد الانقضاء منها مرات عدة، ستَسكُن بعد طول عويل، فإما أن تقنع أنها سلعة وتسلك سبيل من فعلوا بها ذلك لتصبح ربما قوّادة، خاطفة أو قاتلة، أو تظل تقاوم حتى الموت، وحيدة مجهولة ومدفونة في مقابر جماعية.

يراقب البحر، الأرضَ حينها في سخرية وشفقة مما هو فيه، فإن كانت الأرض مقبرة كبيرة تسع الملايين ممن شهدهم، فالبحر أرض الجريمة والشاهد على مجازر أكثر بشاعة، ففيه استغاثة الآلاف، بل الملايين ليهربوا من ظلم أراضيهم لظلم أراضٍ قصية، لم يعلموا أن الظلم سيلاحقهم حتى في رحلتهم. 

ضحايا مركب رشيد الذين سُموا بموتى الحُلم، وغيرهم آلاف من المراكب لم تشهد إلا المصير ذاته أو آخر أشد قسوة، الموت لم يتم هناك، بل نحن فقط من شهِدنا نهاية المشهد، فقد ماتوا منذ زمن بعيد، منذ جوعهم وفقرهم وتعذيبهم فيما يُسمى بأوطانهم، منذ أن باع الأهالي كل ما يملكون ليرموا أطفالهم في أحضان البحر أسبوعاً أو أكثر بلا غطاء ولا طعام، على أمل الهرب لأرض مجهولة أو الموت المحقق، لم يعلموا أن الموت مكتوب عليهم بهذه الحتمية لا مفرّ.. رغم أنهم يشبهون تماماً من يرون لأنفسهم حق العيش.. كأمثالنا مثلاً.
 

لا سامح الله صمتنا وصمتكم، لا سامح الله أوطاناً هجّرت وفرّقت، ثم نزعت الرحمة من القلوب وكبّلت.. رحم الله كل شهيد ولا عزاء لأصحاب الضمائر المغّيبة.

يجذبهم العذاب إليه جذباً وكأنه اختار بقعة وحيدة من الأرض لا يلمسها، وأنهم لسوء حظهم لم يولدوا فيها، لم يولدوا في "أرض النجاة".

يلاحقهم الغرق في الليل السرمدي والعتمة المُخيفة، وسط استغاثة أهلهم الخائفين حتى تختفي أصواتهم تحت الأمواج المتلاطمة، وسط عجزهم القاهر، وهلعهم المستميت، ليس هناك رجل خارق ينقذهم ولا طيارة هيلكوبتر تلوّح إليهم، لا ينعكس عليهم ضوء كشافات مُنقذة ولا أصوات ميكرفونات في الفضاء، لا يشهد عليهم سوى سماء صامتة، وبحر عميق يبتلع كل من تجرّأ عليه، أو ظنه -لا سمح الله- نجاة. 

 

أُناس عجزى، غلبهم الظلم والقهر.. والصمت! صراخات قريبة وبعيدة، مجاعات، ودوي رصاصات محفورة بالأجساد، ذبح وصلب، اغتصاب وتكبيل، خطف وتسوّل، بتر وعذاب، تجارة أعضاء وبشر، آهات فَقد، تنويح أهالي، استغاثة طفل وصرخة فتاة، تعتيم إعلامي، وفساد مغطى في ندوات ومقابلات وتصفيق رقيع.. في رشيد، في شوارع مدينتا، في سوريا، في أقاصي البلاد، في الصحراء، في سيناء، في مصر، في العراق، في فلسطين، في اثيوبيا، في ارتريا، في الهند، في الصومال، في السودان، في روسيا.. في العالم أجمع!

لا أدري في أي لحظة كنا جزء من الصمت النشاز، في أي لحظة اختفت باقي الصورة واختُزلت في بقعة صغيرة بالكاد تسعنا وتسع أحلامنا المرفهّة، في أي نقطة انعزلنا فارّين ومغيبين موتى نُشبه الأحياء.. في أي نقطة ضاعوا.. وضعنا في كل ذلك التيه! 

لا سامح الله صمتنا وصمتكم، لا سامح الله أوطاناً هجّرت وفرّقت، ثم نزعت الرحمة من القلوب وكبّلت.. رحم الله كل شهيد ولا عزاء لأصحاب الضمائر المغّيبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.