شعار قسم مدونات

العودة من حلم منروفيا (2)

blogs - manrophia 2
undefined
من شرفة فندق داكور .. إطلالة على ويست بوينت .. أكبر تجمع للفقر في مونروفيا

اليوم أخبرني أحدهم بأني غريبة، إنها المرة الأولى مذ وصلت إلى هنا. خرجتُ من الدكان العربي بإتجاه سائق الأجرة، شابان في العشرينيات لحقا بي وأخبرني أضخمهما أنهما يعرفان كل شيء هنا وأني لا أعرف، أني غريبةٌ لا حول لي دونهما ولا قوة. أدخل يده من نافذة السيارة طالبًا مني دولارًا أمريكيًا يتقاسمه وصاحبه، لم أكن لأعطيه إياه إلا استدراكًا لخوف الليالي الأولى.
 

لم يكن شعور الغربة في منروفيا كمثيله في نيويورك؛ أن تعبر طرقات منهاتن هذا لا يعني أي شيء، فأنت لا تتعدى أن تكون رقماً بين الأرقام، لا أحد استثنائي في نيويورك، تلك المدينة التي تجمع الجميع بلا فضيلة التمييز. أما الليبيريون فيتفحصونك بدقة لأنك غريبٌ تمشي في طرقات العاصمةِ الصغيرة، يتهامسون عنك، ككل الغرباء سوف تكون دائمًا محل ريبة وتساؤل.

وكلما تظاهرت بأنك غريب تزداد النظرات والتساؤلات. كنت أحاول أن أتأقلم مع أسلوب الحياة الجديد هنا، مع الممكن وغير الممكن؛ ماذا يجب أن أقول وماذا يجب ألا أفعل٬ متى أخرج وأين٬ ماذا أستطيع أن آكل ومع من أتكلم ومن أتجاهل؟
 

العفوية التي اعتدت عليها لم يكن لها مكان خصوصًا في البدايات، اللهم إلاعندما أكون بصحبة محليين أعرفهم، كل البديهيات بحياتي في نيويورك أو جدة بدت لي ترفًا مقابل حياتي الجديدة هنا، والتي لا يبدو أنها محل تساؤل لدى الإفريقي الليبيري على الإطلاق؛ فلديه مناعة ضد المرض والفقر وأحياناً ضد الموت.

على الرغم من أنني أدرس علاقة الحرب والصراعات بالعنف الجنساني، إلا أنني كلما شاهدت كيف صار العنف الجنساني بتعدد أشكاله جزءاً من حياة المجتمع الليبيري، أتساءل وكأني لم أفقه شيئا من قبل.

كل هذه التحديات في الليالي الأولى كانت كافية لاستحضار كل التحذيرات والمخاوف التي بثها في قلبي الآخرون- الطبيبة الأمريكية، مشرفتي الايطالية، أبي الباسم بخوف ووجل من الإيبولا، اقتراحات أمي التي كانت تريد مكانا أقرب جغرافيا لقلبها من ليبيريا البعيدة – وحتى تلك المخاوف التي لم أشاركها مع أحد.
 

سؤال أكبر من رأسي كان يطل في كل ساعة من ساعات الأسبوع الأول بمنروفيا: "هل كان هذا القرار قراراً صائبًا؟"

لم يكن يهدئ من هذه التحديات في الأيام الأولى سوى لحظات الانعزال التي يتشاركها الأجانب وبعض المحليين عن العالم الغرب الأفريقي، كنا حينها نعود لقوقعتنا الصغيرة في منروفيا٬ وقتها يعود ذهني لوضعه المعتاد؛ نفس الموسيقى والأكل، نفس اللهجة الإنجليزية، ونفس التعليقات المتذمرة عادة أو أحيانًا. كنت أشردُ بذهني في كل حوار، أتحدث مع نفسي، أتلمس المكان وأشعر بحقيقة أنني في تجربة حقيقية تستحق التأمل والانغماس في كل لحظة. أنام مرتاحةً في هذا السكنِ القريب من حياتي القديمة، لكن للصباح رأيه الآخر دائمًا.
 

لم ُيشعرني بشيء من السلوى في قدرتي على الانتماء مجددًا لمحيط عربي سوى "صباح الخير" التي يقابلني بها مدير الدكان الذي أرتاده، أو السؤال المتكرر "لازمك شِي؟"، أو الكرم والإصرار على دعوتي لمائدة عربية مساء فطور رمضاني شهي، أو زحام الدكان في ليالي العشر من رمضان أو ليلة العيد الكبير.
 

أغلب من قابلت من اللبنانيين هاجروا أو انتقلوا إلى ليبيريا منذ ثلاثين أو خمسة وثلاثين عامًا. يملك اللبنانيون في منروفيا الكثير، الفنادق والمطاعم والدكاكين والمجمعات السكنية ومواد البناء والتصليحات وغيرها. كثيرٌ من عوائلهم عادوا إلى لبنان بعد انتشار وباء الإيبولا، وكثيرٌ من أطفالهم ممن هم في جيل التسعينات ولدوا في ليبيريا. لا يُمنح المولود في ليبيريا جنسية بمجرد الولادة، ودون أن تكون ليبيريًا لايحق لك تملّك الأرض بل تحصل على عقود إيجارات طويلة المدى تحت بند الاستثمار كما يحدث في دول عديدة حول العالم.
 

العمل في ليبيريا..

undefined
رسم جرافيتي على أحد جدران العاصمة..
 

عن الأمل الذي تمنحين للضحايا والمنظمات المحلية، وأحيانًا للحكومة. ولو كررت مرارًا أنك لا تملكينه، لا تملكين المال ولا السلطة التي تحول حياة الفرد والدولة جذريًا. عن الامتيازات التي تبررين حصولك عليها- وأنت لستِ مضطرة- لكنها تبدو وكأنها معايرةٌ تحاولين التبرأ منها. عن القضية التي تؤمنين بها، وفي كل حين هناك شخص ما يذكرك بأنها لن تنتهي ما انتهت البشرية لكنك تظلين تقاومين وتعملين في كل مرة وكأنها الأولى.

أعمل مع منظمة محلية غير حكومية تركز على تصميم مشاريع وبناء قضايا قانونية وتطويرية لليبيريا، كنت الأجنبية الوحيدة في المكتب، أو في المبنى الذي أعمل فيه، كنت في الحقيقة تلك الفتاة "البيضاء" التي تجلس في المكتب المجاور كل يوم.

عملت في أربعة مشاريع بالتوازي لكن أقرب المشاريع لتخصصي وهو الذي لازالت أشارك في إتمامه، مشروع متعلق بالعنف الجنساني في ليبيريا حيث نعمل على تدشين مشروع حماية قانونية لضحايا العنف الجنساني، ويشمل ذلك التمثيل القانوني دون مقابل، وتدريب بعض أعضاء المجتمع على كيفية التعامل الأولي مع الناجين من العنف الجنساني والضحايا على حد سواء.
 

العالم – كما يبدو من هنا – أكبر وأعقد من أحلامنا ببناء السلام والعدالة الاجتماعية خلافًا لما يبدو عليه من نافذة الكلية التي تقع في أعالي مانهاتن.

وكغيري من الباحثين في هذا المجال بليبيريا، استطعتُ أن أقف على أبرز القضايا التي تعاني منها المرأة والطفل من خلال المقابلات وبعض القراءات التي أتممتها هناك. يعتبر الاغتصاب مع عدم النفقة على الأطفال من أهمها، بالإضافة إلى هروب الشريك دون مبرر واضح لتظل المرأة مع أطفالها دون نفقة أو معونة وفي أغلب الأحيان بلا تعليم.

مثلاً، فتاة في السادسة عشر أوقفت تعليمها ولا تذكر في أي صفٍ كانت، تحمل طفلاً ذا ثمانية أشهر، هرب شريكها دون سبب يذكر. وأخرى في الخامسة والعشرين، لديها أربعة أطفال لا يذهبون للمدرسة، هرب زوجها دون سابق إنذار، تتعرض للعنف عند عملها كبائعة في شوارع العاصمة ولكن الشرطة لا تنجد شكواها.
 

تلك المرأة الأم بلا تعليم ليست هي الأسوأ حالاً، فحتى أولئك الأطفال الذين صمموا على إكمال تعليمهم لم ينجو من العنف الجنساني.. فيتعرض الطفل للتحرش الجنسي أو الاغتصاب من مدرسيه، وهو مايلقبونه ب "الجنس مقابل الدرجات"، بل وفي ذات مرة، أخبرتني والدةٌ -مبررة ماحدث لطفلتها- أنها كانت تأمل أن يتزوج هذا المُدرس طفلتها وينفق عليها. وتصور أن تكون هذه الوالدة نفسها هي من عانت تعنيف شريكها بل وحتى من هربه، لكن الأمل في مستقبلٍ ظنّت أنه أفضل لطفلتها باعد بينها وبين تخيل الواقع!
 

هذه ليست قصصًا فردية بل تتكرر على مسامعي كل يوم، العنف ضد الأطفال لم يكن حدثًا جديدًا، لكنه يظل حقيقة صادمة مهما تكررت.. وبقدر ما تشكل قصص هروب الشركاء دون سبب أزمة حقيقة، إلا أنها لم تكن مفاجئة بالنسبة لي، فهي تذكرني بكثير من القصص التي تحدث في عالمنا العربي من اختفاء الشريك دون سابق إنذار.. تتعدد الطرق والأساليب لفعل مشابه. غير عدا أنه في مجتمعاتٍ موازية، يبرر المجتمع للهارب هروبه أو لا يأبه له مبررًا ذلك بكونه رجلاً يتمتع بصلاحية الهرب!
 

على الرغم من أنني أدرس علاقة الحرب والصراعات بالعنف الجنساني، إلا أنني كلما شاهدت كيف صار العنف الجنساني بتعدد أشكاله جزءاً من حياة المجتمع الليبيري، أتساءل وكأني لم أفقه شيئا من قبل:
كيف يمكن للحرب أن تفعل كل هذا؟ كيف لها أن تترك هذا الأثر الموغل في الوحشية حتى بعد مرور ثلاثة عشر عامًا؟
وكلما رأيت ضحايا منروفيا، تساءلت، هل يمكن أن يصبح -أو هل أصبح فعلا- العنف الجنساني أمرًا اعتياديا نمر به يوميا في البلدان العربية التي تعاني من الصراع؟
 

في الجامعة، دائمًا ما يذكروننا بأننا ندرس في كلية السياسات الدولية والعامة تحديدًا لأننا نشارك في تحسين حياة الناس وتغيير العالم وجعله مكانا أفضل للعيش فيه، كل بحسب مجال تخصصه في الكلية.. لكن العالم – كما يبدو من هنا – أكبر وأعقد من أحلامنا ببناء السلام والعدالة الاجتماعية خلافًا لما يبدو عليه من نافذة الكلية التي تقع في أعالي مانهاتن!
 

أن أصبح امرأة "بيضاء" فجأة!

undefined
البائعات المتجولات في الطريق بين منروفيا وبومي.. تم التقاط الصورة ونشرها بناء على طلبهم..
 

للمرة الأولى لا يسعفني لون بشرتي السمراء كما اعتدت عند السفر أو الاختلاط بمختلف الجنسيات.. لم أجد يومًا صعوبة في الانتماء "الظاهري" لكثير من الجنسيات، اعتدت عند السفر لأي مكان أن يُشعرني المحليون بالانتماء..
 

في المرة الأولى : نظرت إلي طفلة في الثامنة من عمرها وهي تحكي لي قصتها قائلة بكل استرسال "……. هو أبيضٌ مثلك" كانت تلك المرة الأولى التي أُوصف فيها بالبياض.. أعدت على مسامعها السؤال فيما ا إذا كنت بيضاء في مخيلتها وأكدت لي ذلك.. لا أستطيع أن أنكر لحظتها شعوري بشيء من الضجر.. لا لشيء سوى لارتباط تصينف الأبيض ثقافيًا بصاحب الامتيازات وبالمستشرقين في عالمنا العربي الذي عانى بدوره أيضًا من الرجل الأبيض والمرأة البيضاء في مخيالنا القريب وذاكرتنا التي ترفض النسيان.

كم هو مثير للضحك هذا الترتيب الاعتباطي للون والعرق. كيف لي أن أكون ذات الشخص الذي له كل امتيازات البيض في ليبيريا، و مجرد "امرأة ملونة" أخرى إذا ما عدت إلى أمريكا .. كانت الفكرة غريبة و ملهمة بالنسبة لي، أن تكوني ذات الشخص لكن عرقك، دينك، لونك، يتغير بحسب تغير موقعكِ في شبكة علاقات الهيمنة العالمية والمتقاطعة.
 

يسألونني دائمًا بتردد إن كنت فعلاً أحب ليبيريا وأفريقيا ؟! ابتسمت، كما أبتسم عند كل سؤالٍ يباغتني على حين غفلة.. وللأسئلة بقية..

الحقيقة، أني لم أكن يومًا بيضاء كما كنتُ في منروفيا.. مع الوقت، تعايشتُ مع هذا الشعور الأبيض الذي لم أختره..أنا بيضاء في مخيلتهم فقط لأني لستُ سوداء وليس لأي سبب ثقافي آخر.
 

كنتُ دائمًا أخشى من الانحدار الكلي في قوقعة الأجانب التي لم يكن هناك مفرٌ منها.. فالصدفة سيدة الموقف في ليبيريا.. أماكننا محدودة.. ترين ذات الأشخاص في أيام وأماكن مختلفة.. أغلب الأجانب في ليبيريا هم اللبنانييون التجار، والأمريكيون العاملون في السفارة الأمريكية، موظفوا الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى من مختلف الجنسيات..
 

في المقابل، كثيرٌ من الامتيازات كانت تمنح لي لأنني لست سوداء تحديدًا.. أن يتوقف السائق لي قبل الليبيرية التي أشارت إليه قبلي أو أن يقدم لي الجرسون قائمة الطعام قبل الجالسين معي لأني أجنبية، لم يكن ذلك شعورًا مريحًا أبدًا.. ففي مخيلتي، أي امتيازات لم أحصل عليها بجهدي لستُ أولى بها ولا ينبغي أن أحفل بها كثيراً..
 

بدوري، حاولت التقرب من الثقافة والروتين اليومي للعاملين هناك.. لم يسعفني لون بشرتي السمراء في هذه القارة الأم كما توقعت.. كنت أرتدي في كثير من الأحيان ملابسي المزخرفة بزخرفات أفريقية، بل وجدّلت شعري على طريقتهم، لم تكن تلك الفكرة سيئة أبدا.. فقد تغير تعامل العابرين في الطرقات معي. هكذا صرت أقرب لهم. يسألونني دائمًا بتردد إن كنت فعلاً أحب ليبيريا وأفريقيا؟! ابتسمت، كما أبتسم عند كل سؤالٍ يباغتني على حين غفلة.. وللأسئلة بقية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.