شعار قسم مدونات

في كَبَد التاريخ

blogs - gawzi
لقد مرّ الكثير من الوقت، منذ أن بدأ أسلافنا بدفن موتاهم وصناعة أدوات الصيد والقتال البسيطة وتزيين أنفسهم بالحلي، وهي الشواهد التي أعلنت منذ خمسين ألف عام تقريباً عن ولادة الإنسان الذي نعرفه (Cro_Magnons).
 

ترافقت ولادة الإنسان مع ظهور الأدوات بشكل أكثر تعقيداً عن استخدام العصيّ والحجارة المصقولة، وترافق كذلك مع ظهور الفنّ مقترناً بالاعتقادات الدينية. كان أسلافنا يجمعون الثمار البريّة ويصيدون الحيوانات، في بعض الأحيان كانوا يأخذون روث هذه الحيوانات ودهنها ويرسمون به لوحات تعبّر عن تعاطفهم مع ضحاياهم من الحيوانات (كاللوحات الشهيرة في كهف لاسكو)، فيما يُفسّر اليوم بأنه ربما كان محاولة لتسهيل عبور أرواح تلك الحيوانات إلى العالم السفليّ، أو محاولةً للتطهّر من إثم الضرورة؛ ضرورة أن يقتل الإنسان غيرَه ليعيش.
 

استعمل السيسيولوجي النرويجي يوهان غالتونغ مصطلح "العنف البنيوي" لوصف العنف الممارس من قبل النظام الطبقيّ، والذي لم تخلُ دولة منه على الإطلاق

إلا أنّ هذا التعاطف، وهو سمة تُميّز الإنسان عن غيره من الحيوانات، لم يمنع البشر من أن يكونوا أبرع آلات القتل؛ قديماً وحديثاً. فالعديد من الدراسات الجادّة تقرن بين انقراض الثديات الكبيرة كالماموث في سيبيريا والدببة الأرضيّة في الأمريكتين والكنغر العملاق في أستراليا بتاريخ وصول الإنسان إلى هذه المناطق. كما إنّ التحليل الأبرز لاختفاء سلف الإنسان الحديث (النياندرتال) هو قضاء الإنسان الحديث عليه.

غالباً ما صرنا ننظر إلى الإنسان الصياد جامع الثمار، ومن بعده الإنسان المزارع ببعض النوستالجيا، باعتبار أنّ البشر في عصور ما قبل الحداثة كانوا أكثر انسجاماً مع الطبيعة ومع إخوتهم البشر، وهذا غير صحيح بالطبع. فصحيح أنّ الإنسان الصيّد كان يعيش في مجتمع متساوٍ طبقيّاً، بحكم تساوي قدرة الجميع القتاليّة أوّلاً، وثانياً وهو الأهمّ، بسبب استحالة تخزين الغذاء لمدد طويلة، مما يعني استحالة توفّر فائض إنتاج يمكن من خلال رعاية طبقة من الحرفيين والبيروقراطيين والفنانيين والملوك والمجندين المتفرّغين وغيرهم ممن يشكلون عماد الدولة، إلا أنّ التنافس على أراضي الصيد، والمراعي لاحقاً، تسبب في حروب بين المجموعات البشريّة، وقد وجد علماء الآثار دلائل على وجود مقابر جماعيّة، مما يُرجّح وجود مجازر كبيرة نسبيّة في تلك الحقبة.
 

لم تنشأ الدولة إلا بعد اكتشاف الزراعة وتطوّرها؛ عندما أصبح إنتاج الغذاء على مساحات شاسعة ممكناً بسبب توفّر شبكات الريّ وتدجين الحيوانات التي تؤدّي وظائف زراعيّة حيويّة بالإضافة لأهميّتها هي الأخرى في إنتاج الغذاء.
 

مع ولادة الدولة الزراعيّة، أصبح من الممكن أن توجد طبقة لا تكدح في المزراع، بل تقوم بوظائف إدارة الدولة. لقد تمايزت هذه الطبقة عن المزارعين في أنظمة طبقيّة صارمة، وصحيحٌ أنّ هذه الطبقة لم تكن تُشكّل ما يزيد عن 2% من عدد السكان، إلا أنّها كانت تستأثر بفائض الإنتاج كلّه، فيما يكتفي المزارع الكادح بقوت يومه والعيش في ظروف حياتيّة قاسية وظالمة.

استعمل السيسيولوجي النرويجي يوهان غالتونغ مصطلح "العنف البنيوي" لوصف العنف الممارس من قبل النظام الطبقيّ، والذي لم تخلُ دولة منه على الإطلاق. لا يمكن للدولة أن تقوم دون "عنف ماديّ" يتمثّل في جهازها العسكريّ، و"عنف بنيويّ" يتمثّل في جهازها الاقتصاديّ-الاجتماعيّ المدعوم أيدولوجياً.
 

والحقيقة القاسية في تاريخنا الإنسانيّ، هو أنّ كلّ ما نعتبره إنجازاتٍ تاريخيّة وتطوّرات كبرى في مسيرتنا البشريّة كان نتاجاً لهذا "العنف" الظالم؛ فلم يكن اختراع الكتابة في سومر القديمة سوى وسيلة لضبط الانتاج الزراعي وتبادل المعلومات الاستخباراتيّة حول التمرّدات المحتملة للمزارعين، ولم تكن الشواهد العمرانيّة الضخمة، كالأهرام والقصور وغيرها، سوى شواهد على الاضطهاد الذي حمله المزارعون الفقراء على أكتافهم الهزيلة، كما لم تكن الفنون والعلوم الرياضيّة والفلكيّة والطبيّة المختلفة ممكنة إلا بتوفّر الثراء ووقت الفراغ، وهو ما لم تكن تحوزه سوى الطبقة الأرستقراطيّة بطبيعة الحال. لخّص ولتر بنيامين هذه الحقيقة بمقولته الشهيرة "إنّ كل وثيقة عن الحضارة، هي وثيقة عن البربريّة أيضاً"

رغم محاولة الأديان المختلفة زعزعة الأسس الظالمة التي قامت عليها الدولة الزراعيّة، إلا أنّ سعيها لم يُفلح، أحياناً، سوى في إنتاج دول أخرى، تستعيد الأسس ذاتها، وتعيد إنتاج النظام ذاته، تحت شعارات جديدة. وفي أحيانٍ أخرى تمكنت الأديان من تخفيف وطأة العنف البنيوي وإيجاد مساحة لأخلاق الشفقة والرحمة، دون أن يعني ذلك تغيّراً جوهرياً في طبيعة النظام. لا يعود ذلك إلى نقص في أخلاقيّة أتباع الأديان، أو حتى في أخلاقيّة الحكّام بالضرورة، فتكرار النموذج الزراعي ذاته في مناطق متعددة بالسمة ذاتها يؤكّد على الطبيعة البنيويّة للظلم والاضطهاد والتفاوت في الدولة الزراعيّة؛ وفي الدولة على العموم.
 

ليس عليّ أن أتابع السرد وصولاً إلى حضارتنا الصناعيّة الحديثة (أو حضارتهم الصناعيّة الحديثة التي نُشكّل نحن أطرافها التابعة)، فأنتم تعرفون كيف ينطبق النموذج ذاته عليها بصورة مختلفة أكثر تحايلاً ومكراً و"قانونيّة". وليس عليّ أن أخبركم كيف تمّ حلّ أزمات المركز الاقتصاديّة والاجتماعيّة بتصدير العنف، عبر الاستعمار، إلى الأطراف، واستغلالها وإعادة إنتاج النظام الطبقي عالميّاً، ومحلّياً معاً.
 

في أحد روايات تي. إس. إليوت تدلف المريضة سيسيليا إلى طبيبها النفسيّ قائلة ما معناه "ثمة خلل في مكان ما، إما أن يكون فيّ أنا، أو يكون هناك، وراء النجوم! أرجوك قل لي أنّه فيّ أنا، عندها سيكون من الممكن إصلاحه".
 

تصلح هذه العبارة لأن تكون عنواناً ومدخلاً لسؤال الدراما والتراجيديا الشخصيّ، وتصلح أن تكون عنواناً لسؤالنا هنا عن كَبَدِ التاريخ. فهل الخلل في "نسيج الإنسان الفاسد" بتعبير كانط؟ أم في بنية الدولة وطبيعة الاجتماع البشريّ وعلاقتنا بالطبيعة. أمام سؤال كهذا يختار أحد رهبان الترابيست أن يتخلّى عن كلّ ما أنتجته الحضارة الإنسانيّة منذ فجرها، باعتباره نتاجاً لهذا الظلم والاضطهاد، واستفادةً من نظام العنف. فهل يكون هذا الحلّ العدميّ هو خيارنا الوحيد؟ قد، وقد لا يكون.

فتحت النظريّة الماركسيّة وأطيافها باباً لمستقبل مختلف للتاريخ البشريّ، مستقبلاً يقوم على حتميّة وصول المجتمع البشريّ إلى مجتمع الوفرة، بحكم التقدّم العلميّ، وفي ذلك المجتمع ستختفي أسباب الصراع والعنف؛ هذا باعتبار أنّ تلك الأسباب قائمةٌ على ندرة الموارد وتنافس البشر عليها، فإن توفّرت الموارد بما يكفي الجميع ويفيض، وتوفّرت لدى الجميع القدرة على الانتاج بشكل متكافئ، فلن تعود ثمة فائدة أو معنى للاحتكار والتملّك، ولن يسع أحد أن يتسأثر بفائض الانتاج، إذ إنّ الفائض أكبر من قدرة أحد على الاستئثار، كما إنّ إنتاجه سيكون مُتاحاً للجميع.

لا يملك أحدٌ الجزم بصدق هذه النبوءة من كذبها على مدى تاريخيّ بعيد بعيد، ورغم أنّ كلّ محاولاتي لتخيّل سيناريوهات ممكنة لتحقق هذا الاحتمال باءت بالفشل، إذ دوماً ما ارتبط التقدّم العلمي بالسلطة بأشكالها المختلفة، ودائماً ما توجّهت منافعها لتطوير أدواتها وزيادة قدرتها على التحكّم، كما إنني لم أستطع، بخيالي التاريخيّ المحدود، أن أتخيّل انتهاء رغبة البشر في الأثرة والسيطرة والتملّك، إلا أنني أُبقي قوس التوقّع مفتوحاً، وفي لحظة ما أتمنّى البقاء حيّاً فقط لأشهد كيف سيكون البشر حينها إن كانوا!
 

لقد وُجدنا وعشنا بطرق لا نستطيع أن نتخيّلها الآن، وربما سنعيش "كجنس بشريّ" في زمان لا يمكننا تخيّله الآن أيضاً

لا شكّ أنّ الدين يُقدّم باب عزاء ورجاء في مواجهة كَبَدِ التاريخ، فمفهوم "الابتلاء الفرديّ"، يفتح للإنسان شبّاكّاً إلى السماء يتمثّل في إيمان المؤمن بأنّ الدنيا ليست مناط تحقق العدل، وأنّ واجبه الفرديّ يتحدد بموقعه من حركة التاريخ، وموقعه في النظام، فبقدر ما يتمثّل الإنسان ما يعتقد أنّه خيرٌ وعدلٌ بقدر ما يكون قد أدّى واجبه، ولو كان يعرفُ سلفاً بأنّ عجلة التاريخ ستسحق يده المرفوعة إلى منالٍ لم يُتح بعد. كما إنّ الدين يفتح باباً للعمل في الأرض ينطلق في رضا المؤمن بكَبَدِ التاريخ، لا رضا المستسلم، وإنما الرضا المشفوع بضرورة تحقيق الحدّ الأدنى من العدل والخير في الآن، ودفع عجلة التاريخ، قدر الإمكان، في اتجاه جديد. أيّ إنه يجعل الإنسان يقبل بقَدَرِه التاريخيّ ومحدوديّته، ويُساعده على العمل داخل هذه الشروط دون أن يفقد القدرة على النظر إلى المثال المطلوب، ودون أن يشلّ اليأسُ قدرته على الفعل.
 

المؤسف، أن يُقدّم الدين أو الفلسفة سنداً للواقع التاريخيّ وتبريراً له، وأن يؤسسا له باعتباره حقيقةً عابرةً للتاريخ، أو باعتباره نهاية للتاريخ. فالنهاية ما تزال بعيدةً ، والبداية، لمن يتذكّر التاريخ الطويل للبشر، تكشف لنا حقيقة أننا بلا ماهيّة نهائيّة أو وضع مقرر سلفاً، لقد وُجدنا وعشنا بطرق لا نستطيع أن نتخيّلها الآن، وربما سنعيش "كجنس بشريّ" في زمان لا يمكننا تخيّله الآن أيضاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.