شعار قسم مدونات

المغتربون.. أحفاد قارون

blogs-غربة
لي صديق ربما يعتقد البعض أنه يفتح عينه كل صباح ويغلقها كل مساء على خيرات "أقوى دولة" في العالم، فقط لأن الأقدار ساقته ليعيش بضع سنوات عجاف على أرضها. لا يعلمون أنه مثقل بأعباء الدراسة وأوزارها في بلد لا يعرف من الرحمة إلا ثمنها بالعملة الصعبة! 

توفي جده بعد أيام من سفره، فلم يجد من يبكي معه، بل ربما لم يبك أصلا، وهل يجدي البكاء!؟ فلا تستطيع الدموع أن تعيد جده، ولا تستطيع أن تأخذه ليراه مرة أخيرة قبل أن يوارى الثرى، لا تستطيع الدموع أن تجمع بين من فرقتهم الغربة. 

لطالما راودني سؤال وأنا المغترب عن وطنه منذ ١٣ عاما، لماذا يرانا الناس وكأننا أحفاد قارون نكنز الذهب والفضة من حيث لا نحتسب ولا يحتسبون؟ وكأن الخليج يسقي قاطنيه "نفطا"، والغرب يفرش للقادمين إلي أراضيه وردا! 

نحن بلا تاريخ لأننا لم نكن جزءا منه، فهناك في أوطاننا يُكتَب التاريخ قطرة دم بقطرة دم، ونحن هنا نشهد للشهداء بالوفاء.

ربما هو بؤس الحال في بعض دولنا العربية، أو البؤس الأكبر فيما تبقى من دول العالم، والحقيقة المرة يا صديقي أن الكون كله مريض بالحزن والأوجاع، ونحن أهل الغربة مصابون بالداء ذاته، وتلك أعراضنا: 

نحن بلا وطن، حتى وإن رأينا "الوطن" معنى جميلا فينا للمكان الذي يمنحنا الأمان والسلام، فلن يتجاوز ذلك أكثر من مجرد معنى في نفوسنا، ستبقى الأرض تلك تأبى أن تكون لنا وطنا، وإن شاءت يوما أن تكون فلن تستطيع!

نحن هنا ربما أفضل حالا "ماديا" ممن تركنا خلفنا، ولكن نمط الحياة هنا لا يرحم، حتى لو حاولت أن تكون مقتصدا سيأكل هذا "الوطن" من جسدك النحيل حتى تعيد لمستشفياته كل قرش جنيته بعرق جبينك تحت شمسه الحارقة، وبعد عمر طويل في ظلال التعاسة المادية لن تجد وطنك الحقيقي فاتحا ذراعه أمامك ليحتضنك بعد طول غياب، بل متنمرا لا يريد لما تبقى منك أن يبقى، هذا إن كان لك وطن!

نحن بلا تاريخ لأننا لم نكن جزءا منه، فهناك في أوطاننا يُكتَب التاريخ قطرة دم بقطرة دم، ونحن هنا نشهد للشهداء بالوفاء، ونلعن أصحاب السياسية العمياء. ونحن هنا أيضا في الغربة لا يجرؤ أحدنا أن يعرض نفسه لتاريخ هذا "الوطن".
 

أما ما مضى من تاريخنا فلا تعرفه مناهج الدراسة هنا، وكل ما سيربط الأجيال التي نشأت في الغربة بأوطانها بعض أسماء ألفوا وجوهها في رحلاتهم السياحية إلى الوطن.

نحن يا صديقي بلا هوية، لا يستطيع المغترب أن ينسلخ من ذاته بين عشية وضحاها ويتكفن بهوية وطنه الجديد، وإن شاء أبت سلطة الأبوين، ولا يستطيع في الوقت ذاته أن يرفضها لأنها تحيط به من كل جانب، خاصة إن كان مولودا في الغربة، ولا يستطيع إن عاد إلى وطنه أن ينسلخ من هوية احتلت كيانه في الغربة ويرتدي لباس هوية لم يعرفها أو باتت غريبة عليه بقدر ما غاب عنها، حتى أصبحت هناك هوية جديدة يمكن تعريفها بـ"الغربة" يستظل بها الضائعون.. ولكن، من يعترف بهذه الهوية؟ ما فائدة هوية يتنكر لها أصحابها عند أول مواجهة حقيقة!

لماذا يعترف أهل الغربة بهويتهم الجديدة فقط عندما يحين موعد البكائيات على الوطن والعمر الذي ضاع بعيدا عنه؟

لماذا يعترف أهل الغربة بهويتهم الجديدة فقط عندما يحين موعد البكائيات على الوطن والعمر الذي ضاع بعيدا عنه، وتختفي كأن لم تغن بالأمس عند المعايشة الواقعية؟ هل حاولت مرة كمغترب أن تتزوج من مغتربة؟ هل ذكرك أحدهم حينها بجنسيتك؟ هل حذرك أحدهم من اختلاف العادات والتقاليد وأسلوب الحياة بين "المغتربين" في وطن واحد؟

يرى الناس منا نحن أهل الغربة جانبا واحدا فقط، ويحسدوننا عليه وكأن الشمس تنازع القمر على أكفنا، ولا يطال نظرهم لهذا الألم القابع خلف الضلوع بصمت.. عكس الحال هو ما نراه نحن فيهم من بؤس الحياة وكدر العيش في وطن أبى أن يكون لنا.. فأبينا أن نكون له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.