شعار قسم مدونات

عيون الليل وتراب هذه الأرض

blog الرقة

أخطُ لكم أول يوم في تحرير مدينة الرقة من يد النظام، المدينة التي شغلت العالم اليوم كيف كانت أيام التحرير الأولى.

مدونة التحرير -الرقة 2/3/2013
"اليوم الأول" 
(عيون الليل وتراب هذه الأرض)

يوم الثاني من مارس الساعة الخامسة فجراً، استيقظتُ مذهولاً على أصواتِ الاشتباكات في مدينة الرقة، كانت هذه الاشتباكات هي الأعنف منذ بدءِ الحراك المسلح في المدينة، اتجهتُ مسرعاً لغرفةِ أخي الأصغر حتى أطمئن على وجودهِ في سريرهِ فلطالما تأخر في العودةِ للمنزل ليلاً، وجدتهُ واقفاً فبادرني بالسؤال: ما هذا.. معقول دخل الجيش الحر؟ كُلنا في ذهول بالتزامنِ مع ارتفاع وتيرة الاشتباكات، كانتْ حرباً حقيقية عند الهجانة ومباني الضباط وحاجز الفروسية التي تقع شمالٓ غربِ الرقة المدينة.

 

 اعتدنا صغاراً أن نركضَ خلف مقاتلات النظام ونغني "طيارة طارت بالجو فيها عسكر وفيها ضو"، لكن هذهِ المرة لم تكن تُلقي مناشير تحملُ أقوالَ القائد الخالد!

حالة من الخوف والرعب كانت تسيطرُ علينا طوالَ هذهِ المدة، خوفٌ تبرِرهُ أصواتٌ لم نعتد سماعِها من قبل، في هذهِ اللحظات كان معظمُ أهالي الرقة مستيقظين وبدأت الاتصالات بينَ الأقارب للأطمئنان، بعد نصفِ ساعةٍ من بدءِ المعركة تزامناً مع تجلي ظلام الليل ووضوحِ الرؤية أقبلتْ مقاتلاتُ النظامِ تُبحر في سماءِ المدينة.

اعتدنا صغاراً أن نركضَ خلفها ونغني "طيارة طارت بالجو فيها عسكر وفيها ضو"، لكن هذهِ المرة لم تكن تُلقي مناشير تحملُ أقوالَ القائد الخالد!. كانت تحملُ براميلَ الموت، براميلَ الحقد، أرسلتْ هذه الحوامات أولَ رسالةٍ مع أولِ برميلٍ فحواها "ستذوقون ما ذاقتهُ باقي المدن.. لا راحمَ.. لا مغيثَ لكم.. للحريةِ فاتورةٌ ستدفعونها".

 

سرعان ما تَصدّر الخبر صفحات الإنترنت وتملّكَ القلقُ أبناءَ الرقة في المغترب وازدادت التساؤلات عن ماهيةِ الحدث، في هذهِ اللحظاتْ أطلَّ علينا مراسلُ قناة الأورينت ابنُ الرقة "أيهم الخلف" ليقول: اطمئنوا يا أهالي الرقة، فمن في المعركةِ هم حركة أحرار الشام ولواء أمناء الرقة وهم أشدُّ الناسِ حرصاً وخوفاً على أهلِ الرقة.

أطلقتْ حركة أحرار الشام على هذهِ المعركة اسم "غارة الجبار"، كانَ الهدفُ منَ الغارة هو تحريرُ مساكن الضباط ومقر الهجانة وحاجز الفروسية وقطع خطوط الأمداد بينَ المدينةِ والفرقة ١٧ -حيثُ أنَ الفرقة تبعدُ ٣ كم عن حدودِ المدينةِ الشمالية – بمؤازة بكل من كتائب حذيفة بن اليمان وجبهة النصرة وجبهة الوحدة والتحرير ولواء ثوار الرقة .

الساعةُ الآن العاشرة صباحاً لا وجود للحياة في شوارعِ المدينة لا جامعات لا مؤسسات ولا حتى محال التجارية، لا يشقُ صوت الصمتِ سِوى أصواتُ الأشتباكات وقذائفُ المدفعية وصوتُ دعاءِ أمي، دعاءٌ خوفاً من المجهول من ردة فعلٍ قد سَمِعَتها من جارتِنا اللاجئة الحمصية حينَ روتْ لنا مافعلُه النظام وجنودهُ بأبناءِ حمصَ وبناتها قِصصٌ كانَ يشيبُ لها رِمشُ العين .

الساعةُ الثانية عشر ظهراً الدقائقُ تمرُ ببطئ.. الكهرباءُ مقطوعة.. الاتصالات مقطوعة.. الإشتباكات توقفتْ فقط صوتُ المدفعية التي تضرِبُ منَ المدينةِ على الثوار تهزُ المنازل وتدب ُالرعبَ بكلِ لحظة، لا أنباءَ عن نتائجِ المعركة فقط أبناءُ الحيِّ يتهامسونَ بأنَ النظام قد فقدَ حاجزَ الفروسية -وهومن أكبرِ الحواجز في المدينة- وأنَ المعركة حُسمتْ للثوار أَهزُ برأسي وأُطلِقُ إبتسامةً عنوانها "سأرى إسمَ مدينتي الجميلة اليوم على الإعلام".

 

الآن.. الساعة الثانية عشرة منتصفَ الليل، منتصفَ الحُلم، مع صوت نافذتي التي ترتجفُ مِن هَزيزِ الريح وأزيزِ الرصاص، أطوي الآنَ أول صفحةٍ منْ أولِ أيامِ التحرير

كانَ النظام يتعمدُ قطعَ خطوطِ الإنترنت وخاصةً في الأحداثِ الكبرى لكن كانَ لدينا إِصرار على نقل الحقيقة وصوتُ الرقة للإعلام، حيثُ قُمنا سابقاً بتجهيزِ إنترنت فضائي في بيتِ أحد الأصدقاء ولم يكن يعرف مكانَ هذا المنزل سِوى ثلاثة أشخاص لأنَ هناكَ خطرا كبيرا على حياتنا في حالِ اكتشفتْ أجهزة الأمن وجودَ إنترنت فضائي في مدينةٍ لا تزالُ في قبضتهِ الأمنية، قمنا بنقلِ الأخبار لنُطمئنَ أبناءَ الرقة المغتربين ورفعِ الفيديوهات التي وصلتنا للإعلام.

في تمامِ الساعةِ الواحدة بعدَ الظهر أعلنَ الثوار إحكامَ السيطرةِ على كلٍ من الهجانة ومباني الضباط وحاجز الفروسية وصولاً لمنطقةِ الصوامع وهي الخط الفاصل بين المدينةِ والفرقة ١٧، في هذهِ الأثناء بدأتْ تتوالى المفاجئاتُ من كتائبِ الجيش الحر والفصائل الإسلامية، لواء المنتصر بالله وحركة أحرار الشام وجبهة النصرة ولواء ثوار الرقة تقومُ بفتحِ الخاصرة الشرقية للمدينة وتنسِف حاجزَ المشلبْ وفي ذاتِ الوقت تقومُ بعضُ السرايا التابعةِ لهذهِ الفصائل بفتحِ الجبهة الجنوبية للفرقة ١٧ لقطعِ الإمداد عن المدينة والفرقة معاً، لا تواجدَ لقوات الأمن في الشوارع فَمُصابُهم جَلل والمفاجئة قوية .

تمرُ الساعاتُ ببطء.. تُلَملِمُ الشمسُ ما تبقى لها من دفء.. ونسماتُ البرد همستْ لي بأنها اليومَ ستكونُ حنونة على أبنائِها الثوار، فهم عيونُ الليلِ وترابُ هذهِ الأرض، هذهِ اللحظات أصعبُ ما يمرُ على الثوار. الآنَ ترتجفُ القلوبُ هماً وتذرِفُ العيونُ دماً ليسَ خوفاً من طيار أعمى ولا من قذيفةٍ غادرة بل خوفاً على أجسادِ إخوانهم من بردِ الأرض التي ستَضُمهم بعدَ قليل، يحفِرونَ ثغوراً لهم في الأرض.. يودِّعونهم بحرقةِ الرجال بقهرِ الرجال، الآنَ قلمي ينحني لِلحىً بلَّلها الدمعُ ولشهيدٍ روى الأرضَ عِزاً وكرامة بدمهِ الطاهر.
 

الآنَ الساعة الثانية عشرة منتصفَ الليل، منتصفَ الحُلم، معَ صوتِ نافذتي التي ترتجفُ مِن هَزيزِ الريح وأزيزِ الرصاص أَطوي الآنَ أولَ صفحةٍ منْ أولِ أيامِ التحرير… يتبع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.