شعار قسم مدونات

ترى يا صفية هل هذا هو الوطن؟

blogs - home

كانت تسير وتنظر إلى الأشياء النظرة الأخيرة، وتلمسها اللمسة الأخيرة، وتستنشق عبير هوائها وكأنها المرة الأخيرة، فتحبس أنفاسها لتستنشق أكبر قدر من الهواء فتحتفظ به بداخلها لعله يكون ذكرى، تعود بها إليها مرة أخرى، تتمعن في الأشياء كي تُحفر بذاكرتها، بالرغم من ثرثرتها الدائمة قائلة "لا أريد أن أتذكر شيئًا من ذاك البلد".

 

قالت بمرارة قبل ساعات من رحيلها: من الصعب والمؤلم أن يكون آخر ما تتذكره من بلادك هي شوارع ملطخة بدماء، تطأ قدماك على رفات شبابها، هنا قد رأيت رأس شاب ينفجر، ولم أقدر على إسعافه، وهناك مشيت فوق أرض تغطيها الدماء سيولا، وفى تلك الزاوية، كانت طفلة ترتعد خوفًا، صراخها يكاد ينزع القلب من الصدر، وهناك أم قد انكبت على وجه ابنها سمع أنينها وآهاتها من يسكن مشارق الأرض ومغاربها، وهناك في الواجهة من باتوا يتفرجون على ذاك المشهد ويسيرون على رفات الشباب مبتسمين يطلبون وقوع المزيد.
 

البلاد العربية جميعًا تحتاج إلى تفسيرٍ واضح لـ"ما هو الوطن"

وبين كل تلك الذكريات تأتي تلك الجملة الشهيرة التي طرحها غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا" متسائلا فيها: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟.. الوطن ألا يحدث ذلك كله!" واقتصرت إجابته في ثلاث كلمات "ألا يحدث كل هذا".
 

لكن ذلك التساؤل ظل يتكرر حتى يومنا هذا، دون إجابة واضحة، خاصةً بعد ما هُجِّر قسرًا الكثير من الشباب من بلادهم لأسباب مختلفة، سواءً كانت الأسباب حروبًا أو صراعات سياسية، أو اضطهادات دينية.
 

تساؤل يطرحه الكثير ممن تركوا بلادهم رغمًا عنهم، بعد أن لفظتهم أوطانهم، وبالرغم من تحدث كنفاني الواضح في روايته عن فلسطين، فإن المعنى الذي حضرني في وقتنا الحالي كان أعم وأشمل؛ فالبلاد العربية جميعًا تحتاج إلى تفسيرٍ واضح لـ"ما هو الوطن"، فمصر وسوريا واليمن والعراق وليبيا لم يختلف حالهم كثيرًا عن حال فلسطين، فكلهم يحملون نفس التساؤل، بنفس الإجابة.. "ما هو الوطن؟.. الوطن ألا يحدث ذلك كله".
 

فعندما يصف أحدهم الوطن بأنه موطن أمن وأمان وآمال، تنمو على أغصان الزمان، وعندما نرى مواطنًا تسحق أحلامه، وتتبدد آماله ويشعر بأنه غريب وطن في وطن غريب، فهل سيكفي آنذاك أن نغني له الأغاني وننشد له الأناشيد؟ فنعود حينئذ لذات التساؤل "ما هو الوطن؟".
 

حين طرح السؤال ذات مرةٍ خلال جلسة نقاشية لمجموعة من الشباب عن معنى الوطن لدى كل منا، كانت الإجابات مختلفة في التعبير، تحمل الكثير من الألم والأمل، بالرغم من نبرة الحزن والغصة التي سبقت الكلمات في وصف الوطن، فتساءلت هل الوطن ذاك التراب الأسود؟ أم هو الذكريات التي تلاحقنا مع الأماكن والأشخاص؟ هل هو العائلة والجذر؟ أم هو الطفولة والنشأة؟ هل هو الانتماء الوجداني لأرض؟ هل هي تلك الصورة التي جمعتني في الطفولة مع أصدقاء المدرسة؟ ما هو الوطن؟ وماذا لو كانت تلك الذكريات في بلدٍ آخر غير الذي ولدت به؟ وهل هو تلك الأغنيات التي نتغنى بها في طابور صباح المدرسة؟ أو هو ذاك العلم الذي نقف إجلالاً له؟ أو ذاك النشيد الوطني الذي نردده في كل اجتماعاتنا الهامة؟.
 

الوطن الحقيقي هو الذي يصنع مستقبل أبنائه، ويحرص على فتح نوافذ الشمس لهذا المستقبل

فقال أحدهم اقتباسًا من ذات الرواية التي تطرح ذات التساؤل "لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل"، حيث إن الوطن ليس ما مر من ذكريات داخل الوطن، وليس فقط جزءًا من أعمارنا، بل أعتبر أن الوطن هو المستقبل الذي يجب أن نبنيه ونضحي من أجله، مقتبسًا كلمات من الشاعر محمود درويش، بأن "الوطن هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض، ليس الوطن أرضًا، ولكنه الأرض والحق معًا".
 

ولكن اختلف آخر معه في الرأي، فاقتبس كلماتٍ من ديوان شعرٍ للشاعر أحمد مطر، قائلاً:

"نموت كي يحيا الوطن
يحيا لمن؟
نحن الوطن!
إن لم يكن بنا كريمًا آمنًا
ولم يكن محترمًا
ولم يكن حُرًا
فلا عشنا؟.. ولا عاش الوطن".

 

أما أنا فقلت إن الوطن الحقيقي هو الذي يصنع مستقبل أبنائه، ويحرص على فتح نوافذ الشمس لهذا المستقبل، حتى لا يدرك الحلم ظلام اليأس.. إننا إذا ما أردنا أن نصنع وطنًا يصب في كؤوس الحب…
 

فقاطعني أحدهم وماذا عندما لا يحدث كل هذا، ماذا لو دفن الوطن أبناءه أحياء؟ وماذا لو أغلق لهم جميع نوافذ الشمس وقذف بهم في غيابات الجب؟ ماذا لو أحرق أحلامهم وبدد أهدافهم؟ ماذا لو صادر آراءهم وكتم أفواههم؟ أهذا يكون وطنا؟
 

فأخذ كلٌّ منا يفكر من جديد في معنى الوطن.. ولم يصل أحدنا إلى إجابة بالمعنى الحقيقي للوطن؟ كيف أننا بالرغم من كل ما يحدث ما زلنا نحبه وما زال البعض يتمسك بالتضحية من أجله؟ فتلخصت الإجابة في جملة غسان كنفاني من جديد.. "الوطن ألا يحدث هذا كله".
 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.