شعار قسم مدونات

حتى لا تكون قراءة في الهواء

blogs - books
 
لا شك في أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت هي المؤثر الرئيسي في تشكيل الرأي العام ونشر الأخبار والأفكار بلا قيد أو مراقبة، كما أنها توفر مساحة للفرد يُعبر فيها عن نفسه ويقدمها بالصورة التي يراها مناسبة، وفرصة مشاركة الآخرين الذين قد يشتركون معك في نفس الاهتمامات أدّت إلى تبادل واسع للخبرات والثقافات وتكوين مجتمعات إلكترونية صغيرة تضم أولئك المهتمين في مجال معين أو هوايةٍ ما.

كان من المُستحيل التنبؤ بذلك الذي لم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية أنه سيُلقب يوماً ما بـ"مُعجزة الأدب العربي"، وأقصد هنا الرافعي

من المُنصف القول إن الربيع العربي أدى إلى زيادة الوعي لدى الفرد العربي، الأمر الذي ساهم في ارتفاع مُعدّلات القراءة بشكل ملحوظ، وباتت نوادي القراءة لا تُعد ولا تُحصى، وهو أمر صُنّفت إيجابياته عن سلبياته في عدة دراسات ومقالات.

بنظرة سريعة إلى الملفّات الشخصية (البروفايل) للأشخاص المُهتمين بالقراءة سنلاحظ عدة أمور؛ أوّلها اشتراك معظمهم بسمت عام يسود طبيعة المنشورات التي يقوم بكتابتها وغالباً ما تكون اقتباسات وأقوال مأثورة تعتمد مصادرها على توجه الشخص أكان يسارياً أو يمينياً أو معتدلاً أو غيرها من الأصناف والضروب التي ينطوي تحتها البشر.

كما وسنلاحظ حضور صور فناجين القهوة بجانب الكُتب في إحدى المقاهي الشعبية، مُلحقة بعنوان أعلاها غالباً ما يكون عبارة عميقة أو اقتباسا كما أسلفنا سابقاً، أمّا الصور الشخصية فأغلبها يحضر فيها الكُتب أو المكتبات بشكل عام مع تعبير جدي أو سارح يكسو وجه صاحب الملف الشخصي.

اجتماع هذه الخصائص لدى القُراء -ليس جميعهم- جعل من القراءة حالة تأتي مع مُستلزمات جاهزة تكفل لك حق الدخول إلى مُجتمع القُرّاء الذي قرر فجأة أن فعل القراءة هو فعل خارق للعادة ولا ينطوي تحت الممارسات الاعتيادية التي يقوم بها الفرد دونما أية حاجة لإثبات ذلك أو المحاولة اليائسة للإعلان عنه.

كم نحتاج في وقتنا الحالي إلى تكثيف الوعي بمقاصد الأدب والفكر حتى لا ينطبق على ما نقرأ ونكتب قوله تعالى "فأما الزَّبد فيذهب جُفاء"

من المعروف أن نجيب محفوظ قد عاش حياته بأكلمها كموظف يلتزم بمواعيد دوام مُحددة وبرُوتين يومي لم يُغيره إلا لضرورة حسب شهادة عائلته والمُقربين، ولم يكن أحدٌ ليميزه بأنه هو الكاتب المصري العظيم والقارئ الفذ وهو جالس في القهوة مع رفاقه يتجاذبون أطراف الحديث، وكان من المُستحيل التنبؤ بذلك الذي لم يحصل سوى على الشهادة الابتدائية أنه سيُلقب يوماً ما بـ"مُعجزة الأدب العربي"، وهنا أتحدث عن مصطفى صادق الرافعي، والحال ينطبق على العقّاد الذي عمل موظفا للسكة الحديد ولاحقاً موظفا بمصنع الحرير أنه سيكون يوماً "عملاق الفكر العربي".

تلكم الأمثلة وغيرها الكثير تُدلل على أن ذلك الجيل المُتميّز كان يعيش حالة ثقافية صادقة ولم يشعر يوماً أن قراءته تحتاج إلى هالات وإعلانات وسمت مُعين يجب أن يظهر فيه حتى يتم المُصادقة عليه كقارئ أو مثقف، وكم نحتاج في وقتنا الحالي إلى تكثيف الوعي بمقاصد الأدب والفكر، حتى لا ينطبق على ما نقرأ ونكتب قوله تعالى "فأما الزَّبد فيذهب جُفاء" (سورة الرعد، آية 17).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.