شعار قسم مدونات

أبي الذي لم يحرمني

blogs - father
ذلك الرجل الذي يجلس هناك على جِلستِه التي اعتدتها لعشرين عامًا أو يزيد. تجلس تحت عينيه بداياتُ الخمسين وكذا الشِيبُ في لحيتِه يقول شيئًا من هذا القبيل.

هذا الرجل الذي اعتدت دائمًا لومَه على إهمالِه لي. حيث لم أكن سوى طفلٍ أُحاديّ النظرة: أنظر إلى حقّي بصورةٍ تجريديةٍ لا تعبأ باعتباراتٍ أُخرى.. اعتبارتٍ طالما أعاقات سبيل حقّي الذي كان واجبًا عليه!

هذا الرجل كان أبي. أبي الذي اعتاد أن يجلس صامتًا حين يجمعنا المكان، غير أنّ صمتَه كان يشتدّ غورًا مع الأيام.

كنت أحتاج أبي كثيرًا وكان يحتاج هو ألا أحتاج شيئًا.. كنت أرجو اقترابه وكان يخشى هو ابتعادي.

مع الأيامِ أيضًا كانت تخبو عيناه رويدًا رويدًا عن تلك التي تألّقت يوم مولدي. لا أقول أنّي أعرف شكلها حين ذاك، ولكنّي ألمسها بقلبي الذي عانى كثيرًا من انقطاع الوصل معه.

دائمًا ما كُنتُ غبيًّا ساذجًا لا أفعل شيئًا سوى أنّي ألومه على هذا الهجر، دائمًا ما كنتُ أنتظر أبي، ولم أحضر أنا يومًا في ميعادي الذي أعطانيه خِلسةً بعينيه دون كلام. دائمًا ما كان ينتظرني ولم أكن مرّةً في الموعد، وعلى هذا فدائمًا –أيضًا- أنا الذي كُنت ألوم!

مَن ذا الذي يهتمُّ لوالدِه؟! مَن ذا الذي يهتمُّ لاحتياجِه أو لبشريتِه؟! أبي أغفلني؟ ومّن نظر له؟! ألومُ أبي كثيرًا لأنّه لا يسمع لي، وأبي يصمت. لا يصمت لأنه لا يجد جوابًا، بل لأني لم أواجهه من الأساس.

فقط ألوم في نفسي، وهو يصمت من المُبتدأ، فلا يشتكي ولا يلوم. من أي شيءٍ سيشتكي؟! من هذا الابن الذي جحد قلبُه ولم ينظر خارج ذاتِه طرفة عين.

أحزنُ كثيرًا لأنّنا لم نكن صديقين، وأغفلُ أبدًا أنّه لم يعد له أصدقاءٌ بسببي. أتضجر من المكوث دون نُزهةٍ أسبوعية، وهذا المسكين لم يكن يعرف النومَ لأيامٍ حتى يأتني بما يُرضيني. كيف كان يعيش هذا الرجل؟!

أستاءُ لأنه لا يأتي لي بهذا القميص الذي رغبته، وأتعامى عن قميصِه الذي كان بقِدمِ تاريخي على هذه الأرض. أتساءلُ ساخطًا: أين أبي؟! ويتساءل هو قَلِقًا: أين الولد؟  أغضب من جفائه، ويغضب هو من مرضِه الذي سيخصم من راتبِه. لا يغضب لراتبِه، بل يغضب لحاجتي التي قد تُمنع.

"أبي من فضلك هذه حياتي الخاصة". أقولها مُحتجًّا ولا ألحظ أنّه قد لا يعي هذا لأنّي حياته كلها. أقولها ولا أعلم أنّ أبي فقد حياته الخاصة يوم سعى لأن أحيا.

كبرت قليلًا.. وصارت لي جلساتٌ للسمرِ مع الأصدقاء.. آه.. الأصدقاء! لم أتخيل يومًا أنّ حياتي قد تستقيم بدونهم.

أين أصدقاء أبي؟! قال لي مرّةً أنّه كان كثيرهم، أين ذهبت بهم الدنيا؟! لا بد أنّ ثمّة أبناءٍ مثلي قد فكّوا رباطهم القديم. تُرى.. متى كانت آخر مرة بثّ فيها هذا الرجل حُزنه لأحد؟!

كنت أحتاج أبي كثيرًا وكان يحتاج هو ألا أحتاج شيئًا.. كنت أرجو اقترابه وكان يخشى هو ابتعادي.
لم أفهم يومًا عينيه عندما كان ينظر إليّ غاضبًا إذا تأخرت مساءً في عودتي!

قديمًا فسّرته بأنّه قلق، لكنّي الآن رجلًا قد انتصف عقده الثالث، فلِمَ يستمر غضبُ أبي حين أغيب؟! ربّما هو احتياجه الصامت الذي كان ولا يزالُ صامتًا.. احتياجه الذي لم أفهمه كثيرًا حتى اقتسمتني طواحينُ الأعباء ففطنت إليه، فأصبحت حين أنظر إليه أسمعه دون صوت، كعادتِه: اجلس معي يا بُنيّ فإني أحتاجك.. اجلس ولا تفعل شيئًا.. اجلس ولا تُجر حِوارًا ولن أنظر إليك.. فقط ابق هنا ولا تعبأ بوجودي ولن أُزعِجك، فقط دعني أطمئن أنك بجواري وأنك لن تذهب.. فقط كُن معي وإن كنت غير حاضرٍ، حسبي أنك هنا وأنّي لست وحدي!

أبي علمني -دون أن يعلم- أنّ الأبَ وحيدٌ بين كلِّ الناسِ حتى يحضر ولدُه. علمني أن بقائي السلبي -عنده- أهمّ من غيابي الإيجابي، وأن حضوري الغائب أحب لقلبِه ألف مرة من حضورٍ في الغياب.

هذا الرجل كان أبي.. أبي الذي حرمتُه شبابَه وحياتَه ولا زلت أقتاتُ على كهولتِه وهو لا ينفك عن العطاء والبذل. لا أقول الرضا، بل هو مَن يمنح دونما طلب.. أبي الذي لم يكن معي لأنه أراد أن أكون معه، فانشغل عنّي بيَّ ولم أكن أعي.. أبي الذي لم أفهم نظراته يومًا ولم أفطن إلى صمتِه الطويل.. الذي واعدني في ألفِ ميعادٍ ولم أحضر طواعيةً، وطلبته في ألفِ ميعادٍ ولم يكن لديه الوقت ليعتذر. أنا الذي سلبته وقته ونفسه، وهو الذي لو استطاع إيهابَ أكثرَ لوهب.

هل كان أبي مُحقًا وأنا الذي كُنت على خطأ؟! كذا تسألني نفسي وأجيبها أنّ الأمرَ أبعدُ من ذاك.
أول قاعدة في الحُكم على أحدٍ هي اختياره لما فعل، وهو لم تكن لديه هذه الرفاهية ليفعل.

أبي الذي لم يحرمني.. أشكرك على ما قدّمت. لم تعدو كونك بشرًا طافت به الأحمال وهو ثابتٌ يصارع الدنيا لأجلِنا في أرضٍ تفتك بكلِّ الأحلام.

لقد غلبتُه على أمرِه حين وُلِدت، وغلبته مرةً أخرى حين احتجتُ هذه اللُعبة واحتاج هو البقاء معي، فإذا هو يؤثر حاجتي على حاجتِه، فيستنزف نفسَه لألهو أنا.. ثم إذا أنا شابٌ أحتاجه قبل أي شيء، ولكنّه كان قد اعتاد أن يفنى لأجلي.. أقول أنا أحتاج بقاءك لا عملك، ويصمت هو لأنه خَبُر الحياةَ وقسوتَها ولا يُريد لي ما عاناه من الشقاء.. يصمت ولا يُدافع عن نفسِه، ويستمر في معركةِ العيش طالبًا الشهادة في سبيلِ ألَا أحتاج.  بالطبعِ كُنت أحتاج ما هو أكثر، لكن ما الذي كان سيفعله المسكين أكثر من ذاك؟

لا أدافع عمّا كان من أبي، ومن آباءٍ كأبي، لكنّي أدافع عنه هو.. هو الذي لم يكن ليرغب في أن يحرمني بقاءه وصحبته، ولكنّ هذه الدنيا ليست عادلة في كل حين. لقد حرمتُه قبل أن يحرمني، ولم يختر أيٌّ منّا شيئًا من هذا. ولو أنّي اخترت هذا رغبةً وعقوقًا فإنّي أوقِن في أنّه لم يكن ليفعل المثل أبدًا.

أبي الذي لم يحرمني.. أشكرك على ما قدّمت. لم تعدو كونك بشرًا طافت به الأحمال وهو ثابتٌ يصارع الدنيا لأجلِنا في أرضٍ تفتك بكلِّ الأحلام. فعلتَ أقصى ما استطعت وبذلت ما بلغته قدرتُك، فشكرًا لك على ما فعلت. واغفر لي سوءَ ما فهمت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.