شعار قسم مدونات

عُلبة مجوهرات صُبح البشكنجية

blogs Andalos

عُلبة مجوهرات عاجيّة في المتحف الأركيولوجي بمدريد، قطعتُ مسافة لا يستهان بها طمعا باللقاء، ظننت أني وصلت لوجهتي لكن مع غياب المعرفة اتضحّ أني في المكتبة الوطنية، عبرت البوابة من أجل الاستعلام عن مدخل المتحف، إِلَّا أن الموظفة المتحمسّة أقحمتني فجأة بجولة تعريفية بالمكتبة، انتظرت ساعة كاملة حتى تمكّنت من التنصُّل، كانوا يتحدثّون عن تاريخ المكتبات في إسبانيا، حسنًا الطرح عظيم بلا شك، عظيم لمن يفهم الإسبانية بالطبع!
 

هربت مسرعة نحو المتحف من جديد، بعد بحث وتمحيص عرفت أن مقصدي يقع وراء الجدار، بصراحة لا أعتقد أني كنت سأصل هناك لولا إرشاد من أصدقائي، لك أن تتخيل أن شعبًا بكامله لا يتحدث سوى لغته الأم، هذا لا يتعارض مع لطفهم الجمّ لدرجة تدفعك للتساؤل، هل هم كذلك حقًا أم أنهم خائفون مِنّي؟
 

وصلت أخيرا إلى المتحف، وإنّي لأحسبه من المتاحف التي يشدّ إليها الرحال، كيف يزور الناس مدريد ولا يمرّون بهذا المتحف؟ بُني في نهاية القرن التاسع عشر على طراز حديث، مقتنيات ضخمة من آيبيريا العظمى والعالم كله، منذ فجر التاريخ منذ إنسان الكهف حتى يومنا هذا.
 

بدأت جدولي كأي سائح نجيب يتحرك بين القطع الأثرية وفق التسلسل الذي أراده مشرف المكان، ثلاثة عشر ألف قطعة أثرية على امتداد خارطة الزمن موزعين في مجموعات حضارية.
 

قلبي ينازعني أن أكمل في مذهبي للاستفادة القصوى أو أسرع نحو صندوق الحب الذي أتيت حاجّة، وجدتني بعد دقائق أقفز من سُلّم لآخر دون انتباه لتوافر المصاعد، أنزلق من غرفة لأخرى باحثة عن العصر الأندلسي، ألمحُ من بعيد لوحة كبيرة فيها صورة لمنمنة من مقامات الحريري، لربما تكون الحسناء المشرقية في هذا الطابق إذا، أسرع خطوتي حتى أصل فأجدني أخطأت الحدس، أطلّ على الساحة المفتوحة بين نوافذ الزجاج، تلك تيجان قصر الزهراء تلوح من بعيد.
 

أعود للنزول طابقا بعد طابق، أركض من ممرّ إلى ممرّ حتى تجلّت أمامي ثُريّا قصر الحمراء البرونزية، توقفتُ لبرهة، كان ذاك أول أثر أقتربُ منه لذات الحسن البهيّة غرناطة، عليها كتب بأمر السلطان محمد الثالث، وأنا بأمر الله أخيرا في قاعة الأندلس في المتحف الأركيولوجي بمدريد، أكاد لا أصدق نفسي!
 

أسماها ولّادة ابتهاجا بولادة ابنه هشام، ذات الهشام الذي سُلب عن الإرادة في حكمه صغيرا حتى تفتتّ الأندلس بعدها إلى طوائف وطوائف مُعلنة بداية النهاية

خففّت من مشيتي إجلالا لحضرة المكان، أبحث عنها وأنا أخطف بصري من قطعة لأخرى، ذاك جدار من جعفرية سرقسطة، اسطرلاب النحاس من طليطلة، محبرة من إشبيلية وهذا حوض وضوء من قرطبة، ثم أخيرا.. ها هي جميلتي العاجيّة تبدّت تحت سقف منحوت بكامله كغابة نخيل مسجد قرطبة الأعظم، إنه صندوق مجوهرات صُبح البشكنجية مُدللّة الحكم المستنصر، لو تعلمي يا صُبح ما فعلتِ بي، تمتمتُ كأي مجنون راح يهذي أمام محبوبته.. "أيا لك نظرة أودت بقلبي وغادر سهمها قلبي جريحا.. فإما أن يكون بها شفائي وإمَّا أن أموت فاستريحا".
 

بكيت حتى أجلسني البكاء، كنت أكتم دمعي في مكتبة الأسكوريال المُقدّسة بمدريد، كنت أشيح بنظري عن الصحب في مسجد باب المردوم بطليطلة، كنت أحاول شغل نفسي بالسؤال عن تفلّت كل ما أعرفه أمام دهشة اللقاء، كنت أختزن ألمي وأؤخره إلى ما لا أعرف، ثم هكذا دون إنذار ما عدت أملك زمام أمري.
 

العُلبة كما يصفها باحثون "ذات شكل اسطواني وغطاء مُقبب مُكلَّل ببثْرة بيضية، يتصل ببدن العُلبة عن طريق مِفصلة مِن الفِضة مَطلية بالمينا السوداء، تتألف زخارفها مِن أفرع نباتية مُنسقة بأسلوب زخرفي مُتنوع الأشكال ما بين وروُد ذات عَشر بتلات، سيقان مَجدولة، زهور وصنُوبريات، يَتخللها رسم لأربع أزواج مِن الغِزلان تعلوها أربعة طواويس مَلكية ذات عُرف مُختزل، فوقها عصافير برؤوس مُتجهة للخلف، فإذا دقق المرء النظر رأى الطواويس والعصافير والغزلان تخرج مِن النباتات كأنها حَية، وقد جاءت مُعمّاة لتبدو في صورتها متوافقة مع الأشكال النباتية، فيلاحظ المرء أحجية بصرية في النقوش، وهي علامة الفن التي يُبدع بها تحدياً فكرياً ليوائم بين العقل والتصاوير الحِسية"
 

"بسم الله بركة من الله ويمن وسعادة وسرور ونعمة لأحب ولّادة، مما عمل بمدينة الزهراء سنة ثلث وخمسين وثلاث مائة" رحت أدور حولها كحاج فقد البوصلة، أتأكد مما كتب على محيط الصندوق بخط كوفيّ عريق يحكي تاريخ أمة بكاملها من بغداد إلى عرش الخلافة في قرطبة، صنعها عامل الزهراء بإشراف حاشية الصقالبة، صنعها خصيصا بأمر من عاشق الكتب الخليفة الحكم الذي وصلت في عهده الأندلس لأعلى درجات السمو والرفعة، صنعها حُبا وهياما لصبُح الباسكية، تلك الجارية السلطانة وصية المُلك التي فتنت شيخا ما عرف إلا غواية الكتب.
 

أسماها ولّادة ابتهاجا بولادة ابنه هشام، ذات الهشام الذي سُلب عن الإرادة في حكمه صغيرا حتى تفتتّ الأندلس بعدها إلى طوائف وطوائف مُعلنة بداية النهاية. كان لتلك القطعة الأثرية دلالة كبيرة في قرارة نفسي، كانت أقصى الُحلم وآخره، أعلى الهرم وقاعه، كانت كل ما لا أفهمه.
 

إذا زرت مدريد لا تنسَ المرور بالمتحف الوطني الأثري، آنس وحدة أفخم وأقدم قطع الأندلس بسلامك عليها، تحدث مع عُلبة العاج تلك حتى لو ظنّ من حولك أن بك مسّ من جنون، لا بأس.. أخبر العُلبة عمّا يجول في صدرك، أذرف دمعك كما تشاء، أنذر عهودك أمامها، أخبرها عن أحزانك التي لا تنتهي، أخبرها عن شوق لمجد لم تعرفه. ثم عُد من حيث جئت لكن حذاري أن تعد بعدها كما أتيت.
 

لصُبح سلام، لقرطبة سلام، ولنا بعد أحزاننا سلام..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.