شعار قسم مدونات

إلى أبي المهاجر منذ عشرين عاماً

blog- الغربة
أغبط كرهك للوطن، عزمك الكامل على الرحيل دون الالتفات ولو لنظرة أخيرة. أغبط جرأتك وقلبك الذي استفتيته فأفتاك وما تلعثم. ظننت أني مثلك؛ أن ظُلم وطني قد نزع من قلبي كل حنين إليه. أني قطعت كل روابط الوصْل وأنتظر الرحيل المؤبد. حتى حان الوقت، والهجرة أصبحت خطة وورق وتذكرة طيران، بعد أن كانت حلم بعيد أُعلّق عليه كل شماعات الأمل والخطيئة وسوء الحظ.

 

الهجرة مُخيفة والرحيل مُقبض، كيف كُنتَ حينها؟ فيمَ فكرت ومَن تذكَّرت؟ قل لي، لأنني تائهة. لم أشعر بالسعادة التي طالما حلمت بها. ترك كل ما هو جزءاً مني يُشعرني بالغُربة.. الاغتراب في النفس أعظم من كل غربة يا أبي، بل هو الغربة بعينها وكل ما سواه تباعد مسافات وتواجد في حدود تحت مُسميات. أخشى هجرها فتهجرني. أخشى ارتحالي عني.. فلا يبق لي شيئ يذكّرني بنفسي، أخشى ترك بعضي هنا وأخذ بعضي معي فأتهجّر في نفسي! لا أريد أن أكون ذكرى، أو صفحة مقلوبة في حياة مَن أحببت. لا أريد أن أُرفَع بفعل ماض. ولا أن يطول علىّ الأمد، فيغشو التراب ملامح ذاكرتي.

 

أي طمأنينة وأي حياة في الهجرة يا أبي؟ فالمهاجر يأخذ من وطنه متاعه، ويترك فيه جزءاً من روحه! هب لي أمي وإخوتي، أصدقائي، وشوارعي.. ثم قل لي اللهم هجرة، وأنا والله سأكون أول الراحلين.

لا طاقة لي ببدء حياة جديدة كما تزعم، لستُ طفلة صغيرة صحيفتها بيضاء يُنقش عليها من بادئ البدء. بل صحيفتي مملوءة، مُعفّرة، داكنة ومحفّرة. طُبع عليها بما لا يُمحى. بل أخاف أن يبهت، فيشوّه كل جديد يُرسَم عليه، ويطفئ كل قديمٍ نُقش عليه. قلْب الصفحات ها هنا مُحالاً، كتابي مُعنون ومُفهرَس. قد يحتمل مزيد من التفاصيل في كل فصلٍ، بل ومتروك لها مسافات وأسطر، لكن لا يحتمل الشطب والمزق.. لا يحتمل البَدَل والبدء.

 

ينقبض قلبي بمجرد تخيل أن يكون وصْلي مع أقرب المقرّبين إلىّ خلال هواتف يتخللها تشويش شبكات الانترنت، فلا أسمعهم ولا يسمعون. مجرد انحصارنا ها هنا يُميت جزءاً مني. أنتظر بضع ثوان لأسمع صوتهم، وتسقط مني كلمة ها هنا وضحكة ها هناك. شهور تلو شهور.. وسيملّوا، وربما أنا سأملّ. سأكون ذكرى باقية لهم في هاتف.. لا جسد له ولا روح. سأُنسى بمرور الوقت.. وسأنسى. الرسائل لن تفي، والصور لن تنطق. العبارات لن تُبارك، والهدايا لن تُقرّب. هم كلي وجزئي.. هم أنا.. ماضي وحاضري ومستقبلي.

 

لا أريد أن أرحل واترك وطني. وطني الذي أنقم عليه كثيراً. نعم، لا سامح الله وطناً فرّقنا عن أحبابنا ونزع من قلوبهم كل تعلّق به، لكني اعتدته. وطني بات جزءاً مني لا يريد لي الخلاص.. مهما أردتُ منه الخلاص. عبق شوارعه، وضيق أزقّته، ظلمه وقهره، فقر أهله وتفاوت المستويات، ضياع حقوقنا فيه، وضياع كلنا! عِشت فيه، وعاش فيّ.

 

الوطن انتماء يا أبي.. هو آخر ما تبقى لي من انتماء. أنتمي فيه لأهلي، لبيوتهم البسيطة وأصواتهم العالية، لأصدقائي وشوارعهم وذكرياتنا المتناثرة فيها، حتى أن انتماءاتي ليست لأشخاص وحسب! بل إني متعلقة بالثلاث أشجار الضِخام أمام بيتنا، حاكيتهم ليالٍ طوال وأسررت معهم نجواي، بشارع بيتنا الذي أحتمي فيه وأشعر فيه إني أمِنت، بصوري المُعلقة على الحائط ذي الشقّ المجعّد، بغرفتي التي تعرفني وأعرفها، التي أسكنت صخب ذهني وشاركتني تيهي ورُشدي، تعلمُ أصدقائي ولها معهم ما يربطها بهم ويكفي، لأوراقي المدفونة في أدراج مكتبي الحاملة لأسراري في صمت، لطُرق تهت فيها من أمي وسمِعَت بكائي، للمسجد القريب من بيتنا حيثُ يسكنُ سَكني، الذي سمع مناجاتي وتعلق به قلبي فأويت له كلما ضاقت علىّ الأرض بما رحبت.. ورحب هو.

 

لمدرستي ذات الرائحة القريبة للروح، تُطمئني مهما غِبت عنها. أنتمي في وطني لمن فقدتُ من أحبتي تحت ترابه، أعلم مكانهم وهم يتحسسون قدومي، لرمضان ودفئه، لصلاة العيد فيه وجيراننا والزينة وصوت الأطفال، لمقعد في الزاوية أعرفه ويعرفني. أنتمي فيه.. لنفسي! لكتبي ونظْمها، لسيارتي الصغيرة تحمل أفضل موسيقاي وحكاياي وتصادق صديقاتي. لكل قِبلة يحج إليها قلبي في وطني.

 

وطني ظالمٌ يا أبي، ابتلع أحلامنا وقبر أحبابنا. ولكنه كان معي منذ رحلتَ، بقي مكاني وملجأي ومهربي، به سوّرت حزني وقبضتُ عليه، قد شهدني ولم يؤازرني. ظلمني ولكنه لم يهجرني. نعم، لا مستقبل هنا ولا خير.. كما تقول. لم أقل أنه مريح، بل هو كما هو عليه.. أجد فيه تفاصيلي، ماضيّ وحاضري، رسمتُ عليه مستقبلي. بقيّتي هنا!
 

الهجرة شفاءً لكل جُرح في طموحنا وكل ما فاتنا، ولكنها تحمل سقمنا بألم جديد؛ بألم طويل، وذكريات أدق، وتفاصيل أخصّ. الحياة لديك أريح وأهدأ.. وأبرد! لا أعلم من أي نُكتَة في كتابي، حان ميعاد قلب الموازيين رأساً على عقب. ولِم الآن؟ وإلى أين المآل؟ أي طمأنينة وأي حياة في الهجرة يا أبي؟ فالمهاجر يأخذ من وطنه متاعه، ويترك فيه جزءاً من روحه! هب لي أمي وإخوتي، أصدقائي، وشوارعي.. ثم قل لي اللهم هجرة، وأنا والله سأكون أول الراحلين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.