شعار قسم مدونات

هوسُ التصنيفِ وأَسْلَمَةُ "الميك أب"

blogs - islam

يكثر أن نستخدم أو نسمع في مجتمعاتنا مصطلح "إسلامي"، ولا أقصد هنا استخدامه لوصف الأشخاص أو الجماعات أو الأفكار السياسية وحسب، بل ما تعدى ذلك إلى أدق تفاصيل حياتنا اليومية، فهنالك المحطة التلفازية أو الصحيفة الإسلامية، وهناك البنك الإسلامي كذلك الجامعة أو المدرسة الإسلامية، وصولاً إلى "الميك أب" الإسلامي!

وقد حيرني فعلاً هذا التصنيف الذي يصل إلى حد الهوس لكثير من الأشياء التي لا تحتمل كل هذه المبالغات التصنيفية، والتي يُبنى عليها في كثير من الأحيان اتخاذ مواقف تؤثر على سلوك الناس، أو علاقاتهم بعضهم ببعض، فنجد أن أحدهم يمتنع مثلاً من الذهاب إلى حفلة زفاف أحد أقربائه أو أصدقائه بحجة أن الحفل ليس "إسلامياً"، أو ربما يمتنع عن دراسة التخصص الذي يحبه في الجامعة لأنه فقط في تلك الجامعة "غير الإسلامية"!
 

هذه الظاهرة منتشرة بشكل واضح، وليست في الأوساط الملتزمة فحسب، بل حتى في الطرف الآخر على النقيض تماماً، فإن مصطلح "إسلامي" قد يكون سبباً للنفور لا الانجذاب للبعض، لذا فإني أرى أن مصدر هذا "الهوس التصنيفي" مشترك، وإن كنت لا أؤيد الادعاء بأنه مُوَجَّه من جهات تريد إيصال فكرة معينة أو تشويهها أو أي شيء من هذا القبيل، فإن هذا لا ينفي وجود الاستعمال الموجه من كلا الطرفين في بعض الأحيان، سواء كان لجذب الناس أو تنفيرهم، ما أدى إلى الوصول الى هذا الحد المفرط.
 

لما نهى الإسلام عن الربى مثلاً، لم يعنِ بذلك أكثر من رفع الظلم والنهي عن الاستغلال، وهو ما تقتضيه الفطرة أصلاً.

بدايةً حاولت العثور على نبذة تاريخية لهذا المصطلح، الذي لم أجده لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والغريب في الأمر أن أول ما وجدته من استعمالات لهذا المصطلح كان يراد به معنى مختلف عن المعنى الذي يفهم منه الآن، فمثلاً يذكر د. المهدي المنجرة في كتابه "الإهانة، في عهد الميغاإمبريالية": "في المغرب وُجِدَت كلمة "إسلامي" في بداية القرن التاسع عشر وأواخر القرن الثامن عشر في مخطوطات بمدينة تطوان وبشمال المغرب حيث كانت تطلق كلمة "إسلامي" على اليهود الذين أتوا من إسبانيا ثم أسلموا حتى يتم التفريق بين المسلم الأصلي والذي اعتنق الإسلام حديثا".

كذلك فإننا نجد الإمام أبا الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" قد استخدم هذا المصطلح لوصف من انتسب إلى الإسلام انتساباً، فهو في الحقيقة هنا تعبير انتقاصي، على العكس تماماً من المقصد الذي نستعمله اليوم بمعنى الزيادة في الإسلام.
 

أما في القرآن الكريم والسنة النبوية فالوصف الذي كان يطلق على الأشخاص كان دائماً من قبيل المسلمين، المؤمنين، المتقين، أو المحسنين وغيرها "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِيْنَ"، أما الأشياء والأعمال فلم يرد أن نُسِبَت إلى الإسلام، فالعمل إما صالح أو سيء، والكلام إما طيب أو خبيث "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الْطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الْصَّالِحُ يَرْفَعُهُ"، والحكم والقضاء إما عادل أو ظالم "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ الْنَاسِ أَنْ تَحْكُمُوْا بِالْعَدْلِ"، إذاً فالقرآن الكريم صنف الأعمال دائماً إلى حسنة وسيئة.
 

والواضح في الكتاب والسنة أن الإسلام ليس سوى دعوة إلى الفطرة، ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، ولمَّا لَمْ يقل يُؤَسْلِمَانِهِ فقد عَنَى أن الإسلام إنما هو دعوة إلى الفطرة الأولى، الفطرة التي تقتضي أن الدنيا تحوي الخير والشر معاً، ودور الدين هو الحث على الخير والنهي عن الشر، فعند الكلام يحث على الصدق، وعند التجارة ينهى عن الغش، وكل ذلك راجع الى الفطرة التي تقتضي محبة الخير والسعي له، وكره الشر والابتعاد عنه، فلما نهى الإسلام عن الربى مثلاً، لم يعنِ بذلك أكثر من رفع الظلم والنهي عن الاستغلال، وهو ما تقتضيه الفطرة أصلاً.
 

أما ما نراه الآن تحول إلى أشبه ما يكون بصنف جديد للأشياء، فالأشياء اليوم أصبحت عند من يستخدم هذا المصطلح -دون أن يقصد ذلك في الغالب- إما أن تكون خيراً "جيدة"، أو شراً "غير جيدة"، أو صنفاً جديداً للأشياء: "إسلامية"! ما يعني أن ما يطلق عليه هذا المصطلح لا هو خير ولا شر، وهذا بطبيعة الحال منافٍ لما جاءت الشريعة به تماماً، فالإسلام جاء ليدعوَ ويحث على الخير -الموجود أصلاً-.
 

ربما كان معظم من يستخدم هذا المصطلح يقصد بـ"الإسلامي": الأمرَ الجيد أو الحسن الذي دعا إليه الإسلام، رغم أن الإسلام لم يسمه بهذا الاسم، بل أبقاه دائماً على اسمه "الفطري"، وربما لا يرى البعض مشكلة في استعماله بهذه النية الصالحة، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أمرين، الأول: عدم وضوح معايير هذا المصطلح، فحفلات الأعراس "الإسلامية" على سبيل المثال تحمل العديد من المعاني، فهي عند بعضهم مرتبطة بالموسيقى، فانتفاء وجود الموسيقى هو شرط "إسلامية" الحفلة، أما عند آخرين الذين يتبعون الرأي الفقهي القائل بجواز سماع الموسيقى- فالأمر متعلق مثلاً بأسماء الفنانين، أو الفرق الإنشادية، وهكذا، فالمعيار غير واضح تماماً.
 

الأمر الثاني، وهو الأخطر، يقع في خطورة إلصاق الإسلام بأشخاص أو أفعال أو صور وأشكال بعينها، ما يعني أن الحكم على هذه الأشكال التي ألصقت الإسلام بها، هو حكم على الإسلام نفسه، فإن حسنت فقد حسن الإسلام، وإن ساءت فقد ساء الإسلام، وهذا ما أدرك خطورته النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونهى عنه في وصاياه لقادة الجيوش: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا".
 

فالسياسي "الإسلامي" الذي يفشل في حل المشاكل الاقتصادية بعد أن تختاره الناس في الانتخابات إنما يدفع الناس دفعاً للحكم على الإسلام بالفشل في حل هذه المشاكل

ومن هذا أيضاً لما كتب الكاتب بين يدي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حكما حكم به فقال: هذا ما أرى اللهُ أميرَ المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب، فقد خاف عمر أن يكون ما رآه خاطئاً، فيحكم الناس بالخطأ على الله -جل وعلا-، وهذا الذي خاف منه عمر والرسول من قبله هو ما يحصل الآن.

فالسياسي "الإسلامي" الذي يفشل -مثلاً- في حل المشاكل الاقتصادية بعد أن تختاره الناس في الانتخابات -والتي وعد قبلها بحل هذه المشاكل "بالطريقة الإسلامية"- إنما يدفع الناس دفعاً للحكم على الإسلام بالفشل في حل هذه المشاكل، بعد أن يحكموا عليه هو بذلك، وهكذا حتى تتبلور عند العامة فكرة أن الإسلام غير قادر على حل تلك المشاكل، مما يدفعهم إلى العزوف عنه بالكلية تدريجياً.
 

لا أعني بكل ما سبق اعتراضي على استخدام هذا المصطلح اعتراضاً مطلقاً، فالمشكلة في رأيي في هوس استخدام هذا المصطلح، وفي الهوس التصنيفي بشكل عام، الهوسُ الذي تملكنا بشكل واضح، والذي أعتقد أنه من أهم عوامل الانقسامات والشروخات الواضحة في مجتمعاتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.