شعار قسم مدونات

لو عدت يا موسى.. هل ستستطيع صبرا

blogs - Boat old
لطالما تساءلت.. لماذا يحتكر موسى عليه السلام نصيب الأسد في قصص القرآن؟ لماذا لم يحظ بقية الأنبياء والصالحين بحجم مثله في الكتاب؟ فكثير من قراء النص تسوقهم العاطفة الأدبية في القراءة إلى الانجذاب نحو شخصية يوسف والرأفة على حزن يعقوب وإجلال العذراء مريم، وتوقير القوي ذو القرنين..

أما موسى فقد رسخت قصته الروتينية التي كانت تتلى على مسامعنا منذ أيام الطفولة في المدرسة عندما ألقته أمه في اليم حتى ألقى عصاه فتحولت إلى ثعبان و شق البحر بعصاه، وباقي القصة الأسطورية التي نسجتها المخيلة برعاية الرواة الذين أهلكوا المعنى والروح فيها فوُضعت لدينا في خانة لا عقلانية ولا تمت لواقعنا بصلة.

حتى أيقنت فيما بعد أن تلك الصورة العتيقة تنتهي يوم يقوم العقل بمعية الفؤاد بفتح الصفحة الأولى من رواية موسى بصياغة رب العالمين التي تخاطب عقل القارئ دون راو، ودون وسيط والتي تشرع بالسؤال الاستباقي لقارئها "وهل أتاك حديث موسى؟".

ما الذي يجمع بين واقعنا هذا وسيرة النبي موسى عليه السلام؟ ساقني السؤال إلى خيال وسؤال من نوع آخر

الوصف القرآني المكثف لشخصية موسى عليه السلام أول رسل السماء يجعل القارئ يجسد أمام ناظريه تلك الشخصية لذلك الإنسان البسيط العظيم.. فهو نموذج مثالي للإنسان بشتى سوءاته وعوراته.

رجل بسيط يرعى الغنم، يبحث عن الهدى قبل أن يلقى ربه بالواد المقدس.. رجل يخاف فيحزن ويذعر من عصا تهتزّ فيهرب ولا يعقّب و يقتل بغير عمد، ويغضب فيأسف ويفتن فيحب، فيدعو ربه ويخطئ فيغرق في الغم، ويأمره الله بأمر فيقابله بالاشتراط للمعونة على سداده، ويستعين بأخيه الفصيح ليواجه طغيان فرعون، ثم يكون هو الأشجع والأفصح عند المواقف الحاسمة..

شخصية وإن كثرت بها تناقضات الصفات إلا أن كل صفة في كل موقف تؤكد على أن موسى بلغ أمرا يعجز عن بلوغه بقية الناس، وهو أن يكون باطن الشخص كظاهره، ولعل ذلك يعود لأمر مذكور في حديث قدسي عندما قال الله له عندما اختاره للرسالة "نظرت في قلوب الناس فلم أجد قلبا أوسع من قلبك يا موسى".

بسيرة موسى أيقنت أن الكتاب إذا كان موجها للإنسان فيجب أن يضرب فيه مثال للذات البشرية التي تلامس القارئ في مكمن العجز والضعف، فيرى من خلال ذلك مقارنة تسوقه إلى طريق الحق وهو موقن بضعفه…

فكأن سنّة حياة المرء مع خالقه كمثل أن يعود موسى إلى الطور ليلقى ربه ظنا منه أنه أنهى مهمته في الحياة، وأنه بلقاء ربه سيبلغ الراحة التي يريد.. فيكون الأمر أنه يلقى خطيئة عجلته قبل أن يلقى جزاء سعيه واجتهاده، فيرجع من الطور غضبانا أسفا، مكلفا بتكليف جديد وموجها إلى تجربة جديدة أشد وطأة عليه من سابقاتها.. ليكون فيه القول بعد كل ما خاضه من ألم وجهاد في آخر المطاف ذكرا في الكتاب أنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا.. وتلك هي الراحة التي تعوض كل شيء.. هي الصفة التي ستذكر في كتابك بعد تكليفك إثر كل عودة الى الله..

ماذا لو أنه رأى الجدار يهوي على أهله فيموت بعضهم ويهرب بعضهم؟!

ويبقى السؤال الذي شغلني أكثر.. لو أخذنا بحتمية أن كل ما في القرآن يمس الواقع بصفة مباشرة؛ فما الذي يجمع بين واقعنا هذا وسيرة النبي موسى عليه السلام؟ ساقني السؤال إلى خيال وسؤال من نوع آخر.. ماذا لو عادت تلك الشخصية الرائعة الى يومنا هذا؟ ماذا لو عاد موسى إلينا اليوم؟ بل ماذا لو أخذه الرجل الذي أوتي العلم "سيدنا الخضر" في رحلة إلى ربيعنا العربي؟ هل سيستطيع موسى صبرا هذه المرة؟

ماذا لو أن موسى مر ببلاد الشرارة الأولى ورأى نور الثورة يشع فيها، ورأى الناس يحتشدون في شارع الحرية ويطردون الطاغية من البلاد.. ثم يخبره الخضر بأن هذه البلاد ستتفرق نخبتها شيعا وسيحكمها النظام ذاته وسيرأسها عجوز في التسعين وسيزداد حال شعبها فقرا، وحال شبابها بطالة تهميشا.. هل سيستطيع موسى صبرا؟

ماذا لو أنه مر بمصر ورأى الناس يعتصمون ويصلّون أمام رشاش المياه الساخنة صفا كأنهم بنيان مرصوص وينتصرون نصرا مبينا.. ثم يحمله الخضر لينزل من طور سيناء تارة أخرى، ويجد الجيش يقصف ديارها ويحاصر أهلها، ثم يذهب إلى صرح فرعون فيجد رجلا تكاد البلاغة تقبر نفسها من بلاهة قوله.. هل سيستطيع موسى صبرا؟

سيخبره الخضر كيف أن هذه الأمة بكل نكساتها وخيباتها وأوجاعها كتب لها النصر والمجد في الكتاب.. ولكن يبقى السؤال.. هل سنستطيع نحن صبرا؟

ماذا لو أنه مر قبلهما بأرض الشام ولبنان في أيام تموز، فوجد حاكما شابا طبيبا يدافع عن الشعوب المستضعفة في كل خطاب ويدعم المجاهدين في الأرض ووجد معه حزبا ينتسب إلى الله يرمي صواريخه بالحق.. ثم يخبره الخضر بأن كلاهما سيفرطان في الشام قتلا ودمارا وسيقصفون الديار ويذبحون الأطفال ويملأون السجون بالشباب ويشردون شعبا بأكمله.. هل سيستطيع موسى صبرا؟

ماذا لو أنه رأى الجدار يهوي على أهله فيموت بعضهم ويهرب بعضهم إلى الفلك فيعطب الفلك لا لنجاتهم؛ بل ليموت الغلام على ضفاف الشاطئ وتموت معه القلوب قهرا؟

ثم ماذا لو أن موسى سأل الخضر عن قومه الذين قال لهم ذات يوم "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ" فيأخذه الخضر إلى المسجد الأقصى ليجد بني إسرائيل الذي نجاهم سابقا قد عاثوا في الأرض فسادا يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ، وينشرون الفتن في كامل الأرض، ويعلون علوّا كبيرا.. هل سيستطيع موسى صبرا؟

المؤكد أن موسى سيعلم ما لم يستطع عليه صبرا، وسيخبره الخضر كيف أن هذه الأمة بكل نكساتها وخيباتها وأوجاعها كتب لها النصر والمجد في الكتاب.. ولكن يبقى السؤال.. هل سنستطيع نحن صبرا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.