شعار قسم مدونات

حالة استثنائية.. لن تتكرر

blogs - father

من الممكن أنها ليست هي الحالةَ الاستثنائية في هذا العالمِ الممزوجِ بالمصاعبِ الحارقة، ولا هيَ الحالةَ الوحيدة، بل على الأغلب قد تكون صادفت أغلبَ الفتيات، هي َحالةٌ استثنائية ٌ لم ولن تتكررَ بالنسبةِ لي، في كل ُيوم صادفني بصعوباتهِ وكبريائه إلا أنني وإن عدتُ إلى منزلنا البسيطِ وَجدتُ رَائحتهُ الطاهرة، وَعيناه ُالحَائرتان لعمَلِ أيِّ أَمرٍ يُسعِدُنا، أمّا يداهُ اللتيّنِ أَرهَقتهُما أَوجاعُ الحياة، هُمْا قصةٌ أُخرى.
 

كُلُّ تلكَ الأمورِ أراها وأنسى كل ما مر عليّ مِن التعّاساتِ في سابقِ تلك الساعات، تَرانيمُ صوتهِ وحنان نظراته، لمسته الدافئة في الوجع والفرح، كلماتهِ التي تُذَّوب جمود القلب وتُفجر ينابيعَ الأمل، كلها باتت ذِكرياتٍ صعبةٍ وقد تَكُونُ قاسية، لأنّها كانت على الأغلب جميلة، فالجمال أحيانا يصنع الحزن، وحين تتزاحم الأحزان هي بالفعل تصنع القهر، خصوصاً حينما تفتقدُ شيئاً ثميناً أُرسل َمِن ربٍ عظيمٍ لنّ يعوّضه البشر أو الزمن.
 

ناديت ُكثيراً وطلبته أن لا يذهب، لا زِلت محتاجةً لدفئه، لكلماته، لحبه، إلا أنَّ الأوانَ قد فات وأبي لم يعد يسمعني ابداً فقد ذهب وذهبت كل أيامه الجميلة.

كلُ شيءٍ مُختلف
مرور الأيام في كل سنةٍ اختلفت منذُ أَربعَ سنواتٍ لم تكتمل، يَوميَّ الجميلُ الذي يصاحب صَحوتي على صوتهِ المرهفِ والقهوةِ الصباحيةِ التي جاورتنا في كلماتنا وضحكاتنا المتبادلة.
 

أما عن مائدةِ الطعامِ في الوجباتِ الثلاثةِ التي افتقدت روحاً استثنائية، كلها اختلفت اختلافاً كلياً، اليوم أستيقظُ على الأغلبِ على صوتِ منبهٍ مزعجٍ قاسي، والقهوة المرة؛ ازدادت مرارة ًبغياب سُكّرها الطاهر تحت التراب، أما عن مائدة الطعام هي أيضاً لم تكتمل في الغربة، فتلك قسوة ٌ أخرى، الأب هو النموذج الصادق للحب، للحياة، وللراحة ولكل شيء منقوص.
 

مطاردةٌ صعبة
مطاردةُ طيفك الدائم في كل مَكانٍ تترصدهُ عَيناي صعبةٌ جداً، خصوصاً في تلكَ الأماكنِ التي حملت على كتفيها ذكرياتٍ صعبة الوصف، حين أَتذكر وصولَ خبرِ انتقال روحكَ إلى جوار العظيم في محاضرتي الثانية من قبل أُختي التي تكبرني بعام وهي تقول "بابا مات" بصوت مدججٍ وحارق، وخروجي من دونِ سابقِ إنذار بِسرعة جُنونية للمستشفى التي لم أتأكد اصلاً أَنَّ أبي متواجد بها لكنها هي المكان الأقرب لكُليَّتي ولبيتنا أيضاً.
 

في هذه اللحظة لم أَعد أُفكرُ سوى بِشَيْءٍ هستيري، أن أبي سيفيق حين سماعه لصوت سلسبيل، أسرعتُ في الركضِ للمستشفى، أركضُ أَكثرَ وأكثر لاستغلال وقتٍ ليسَ لهُ وجود لرؤيةِ أبي وإنقاذهِ من الموتِ في ساعةِ موت.
 

وصلتُ أخيراً بعدَ ثلاث دقائقٍ إلى الطب الشرعي، حيث أبي، وجدتهُ مستلقياً على سريرٍ أبيضٍ ومغطىًّ بالأبيض لكنه ما زال يلبس ملابسه ُالتي رأيتها حينَ جلسنا صباحا، وتكلمنا معاً، وضحكنا معاً، وخرجنا معاً، في هذه اللحظة فقط كان يجول في خاطري أنَّ أبي لا يزال يسمعني، ناديت ُكثيراً وطلبته أن لا يذهب، لا زِلت محتاجةً لدفئه، لكلماته، لحبه، إلا أنَّ الأوانَ قد فات وأبي لم يعد يسمعني ابداً فقد ذهب وذهبت كل أيامه الجميلة معه، لم يعد هنا ولا هناك، هو بجوار العظيم، رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه، حافظوا على آبائكم وعاونوهم هم الْيَوْمَ بجواركم وغداً قد يرحلون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.