شعار قسم مدونات

صناعة التغيير.. عندما تكون ثورة (2)

blogs-الثورات

علينا أن ندرك جميعاً أننا نريد إسقاط النظام وليس الدولة، ولابديل عن الدولة إلا الفوضى العارمة والفساد، وسنقبل بكل وضوح بغالبية مؤسسات الدولة القائمة ومعظم العاملين فيها وسنعمل على إصلاحها عن طريق النظم والقوانين رويداً رويداً..

لكننا لن نستطيع هدم هذه المؤسسات أو الاستغناء عنها، وعن خدمات موظفي الدولة القدامى دفعة واحدة، ولا في زمن طويل نسبياً، لأننا حينها سنتعرض لثورة مضادة تكون أكثر ضراوة ودموية، لأنها ثورة احتياج وخبز، أو أننا سنكون مضطرين لممارسة استبداد وقتل وسجن ونفي أبشع بمرات من استبداد النظام وممارساته، عندما تقوم مؤسساتنا الثورية بإقصاء كل من يعارضها باسم حماية الثورة ومكتسباتها.
 

لا أريد أن أكرر ما قلته منذ قليل، ولكن لا بدّ من التأكيد مرات عديدة أن هناك خمسين بالمئة على الأقل من هذا الشعب سيستنشقون الحرية دفعة واحدة إذا قُدّر لنا النصر. هؤلاء لم يعيشوا تفاصيل ما عشناه، ولا يعرفون مقدار الأثمان التي دفعت من أجل حريتهم، الحرية بالنسبة لهم تعني حياة أفضل، وعدالة مفقودة، وتخلص من خوف مقيم في داخلهم، لن يهتموا كثيراً لحجم التضحيات التي بُذلت في سبيل تحقيقها، ولن يستطيعوا فهم من يحارب من أجل إيديولوجيا خاصة يسميها الثورة، وما زال يصر على خلق الفوضى لتحقيقها كاملة.

أدركنا السياسة مبكراً جدا، فتفرقت بنا السبل، وتشتت الغايات والأهداف، فلم يعد هناك ما يجمعنا، لذلك لابدّ من العمل على حشد جميع الطاقات في مكان واحد يتسع لها كلها.

كل ما سيكونون مهتمين به هو مزيد من الاستقرار والعدل والأمان والحرية، تلك القيم الكبرى التي تبناها الثوار والتي سيحاسبون عليها من الشعب بشكل مستمر عند التفريط بها من أجل الإيديولوجيات المتنوعة . هؤلاء سيكونون جنود الدولة القادمة الأشد قوة وعدداً وحزماً، وسيعتبرون جميع من يهدد لهم استقرارهم، هو عدو لهذا الوطن ويجب التخلص منه بسرعة، وتجب إزالته، وسينضم لهم الكثير من المتعبين والمنهكين من جحيم السنوات السابقة، إنّهم قوة عارمة يجب أن نحسن استيعابها وجعلها شريكة في الوطن والمصير والمستقبل بحق، وإلّا علينا مواجهة التجربة المصرية في 30 يونيو جديد، وبطريقة أكثر فجائعية إن صح التعبير.
 

لقد أدركنا السياسة مبكراً جداً، حتى قبل تحقيق النصر بفترة نرجو أن لا تكون طويلة، فتفرقت بنا السبل، وتشتت الغايات والأهداف، فلم يعد هناك ما يجمعنا، لذلك لابدّ من العمل على حشد جميع الطاقات في مكان واحد يتسع لها كلها، وعدم إقصاء إلا من يقصيه القانون ومبادئ العدالة والحرية وحفظ الكرامة.
 

أين الحل؟
في المقاطع السابقة كانت الصورة عصيّة تقريباً على الحل، فالتغيير أمر لا يكون بحجم التقبّل السابق للواقع كما يقول البعض. ما أود أن أركز عليه هنا هو أن فكرة الحلول الجاهزة لم تعد نافعة، ولم تعد مجدية مع حجم تغيرات كبيرة وسريعة، صارت تتطلب صناعة حقيقية للتغيير وليس مجرد تمنيات لحالمين بغدٍ أفضل.
 

ليست مهمة كاتب ينتقد الواقع ويشير إلى أخطاء أصبحت بحجم جرائم تتم ممارستها باسم الثورة والعدالة أن يقدم حلولاً للحيارى، والمنتظرين خروج أي شيء يشبه حكايات آخر الزمان المتكررة منذ حوالي تسعة قرون على الأقل، كما أنه لا يؤمن أن الصناعة تتم بالتلقين، وإنما بفعل الصناعة نفسه "العمل والابتكار".
 

التجارب التاريخية على الأقل في إيرلندا والجزائر والعراق ومصر تخبرنا بواقع مشابه، أبصر النور في الأولى، وتم شمل عينيه في ثلاث تجارب عربية سبقت المحنة السورية التي نعيشها حالياً، وما زلنا نعيد نفس الأخطاء، وببراعة الوصول إلى خسائر جديدة كلياً في كل مرة.
 

في تجربة إيرلندا كانت مهمة التحرر من السيطرة البريطانية شبه مستحيلة، ولكن استطاع الثوار الإيرلنديون إيجاد مفاتيح مهمة للنصر تمثلت في ثلاث جوانب رئيسية سأذكرها باختصار وهي: إشراك الشعب في الثورة عن طريق جر النظام لضرب مصالحه المباشرة والعمل على إصلاحها من قبل الثوار، الاستفادة من جميع المنضمين للثورة وعدم اقصاء أحد، والأمر الثالث والمهم هو عدم إهمال العمل السياسي ودفع فاتورته من فريق نذر نفسه لذلك دون الالتفات للخسائر الآنية، والتطلع لكل مكسب مستقبلي كنقطة ارتكاز جديدة يمكن الانطلاق منها إذا ما تمّ إجهاض المشروع الثوري.

لا أؤمن كثيراُ بثقافة العودة بالثورة إلى وجهها الأول مهما كان نوعها، وأكتفي بتعلم الدروس والعبر والاستلهام، دون إعادة إنتاج التجارب الذي ستحدث بشكل شائه غالباً.

لا أذكر هذا الكلام هنا على أنه حل، ولكن على أن هناك تجارب تستحق الاطلاع استطاعت صناعة التغيير الذي تنشده، وليس اجترار أنماط قد لا تتناسب مع ظروفها، إذا أردتم أن نحقق شيئاً ما فيما تبقى.. فشمروا عن سواعدكم وعن عقولكم، وابدأوا في البحث والعمل.. علنا نصل حتى ولو لم نكن في المراتب الأولى..
 

لا أريد من الإشارة إلى التجربة الإيرلندية أن تكون دعوة للاقتداء أكثر منها دعوة للتفكر وإعادة سبر التجربة السورية عبر أكثر من نصف عقد، شهدت خلالها تحولات تكاد تكون جذرية في كل شيء، وليس أدلُّ على ذلك من عدّة محاولات شهدها العام الأخير للعودة بالثورة إلى وجهها الأول والناصع كما يراه الثوار على الأقل.
 

ولست في صدد بحث مشروعية تلك العودة، عندما تختلف جميع الظروف التي رافقتها، وتصبح المطالبة بها أقرب إلى البحث عن السكينة والراحة، منها إلى إمكانية تحقيقها، والاكتفاء بشرف النضال من أجل شيء ما، يخرج الثوار من حالة الفوضى التي يعيشونها عندما ضاعت الأهداف في الانقسامات الإيديولوجية الحادة التي أفرزتها الثورة قبل تحقيق أي نصر. كما أنني لا أؤمن كثيراُ بثقافة العودة مهما كان نوعها، وأكتفي بتعلم الدروس والعبر والاستلهام، دون إعادة إنتاج التجارب الذي ستحدث بشكل شائه غالباً.

ولن أسرد الدروس المستفادة من التجارب الأخرى، لكي لا أقيد الأذهان باتجاهات معينة، فالعروض موجودة لمن أراد العودة إليها والاستفادة منها في مواقع كثيرة على شبكة الإنترنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.