شعار قسم مدونات

من سيحمل اسمي من بعدي؟

blogs - family

يتمنى كثير من الرجال في وطننا العربي خاصة، والعالم عامة، بأن يرزقوا بأولاد ذكور، وقد يظل الرجل ينجب البنت تلو الأخرى حتى ينجب الذكر، أو قد يتزوج بأخرى في بعض الحالات! وإذا سألت ذلك الرجل عن السبب وراء تلك الرغبة الجامحة لإنجاب الذكر فسيقول "حتى يحمل اسمي".
 

وعندما تفكرت في هذه الظاهرة والفكر المنتشر جدا تساءلت في نفسي، أين سيحمل هذا الابن هذا الاسم؟ في شهادة الميلاد، جوازات السفر، أو سجل تعداد السكان! ما قيمة اسم مكتوب بحبر على ورق، يندثر ويضيع بعد سنين. أعتقد أننا بُرمجنا على هذا الفكر في عقلنا اللاواعي ولم نأخذ الوقت للتوقف قليلا والتفكر بشكل أعمق في هذا الأمر. إذا نظرنا في كتب التاريخ والعظماء، من هؤلاء الناس المذكورين فيها؟ هم أناس خلدهم التاريخ بسبب إنجازاتهم وأعمالهم المهمة، وليس بسبب أبنائهم. نحن عندما نقرأ عنهم لا نعرف ولا نهتم أن نعرف كم أنجبوا من الذكور أو الإناث، أو حتى إن كانوا متزوجين أو لا!
 

بالنسبة للنساء فالأمر واحد، فحتى لو أنجبت عشر ذكور فاسمها لن يحمله أحد لا في شهادات الميلاد ولا غيره! وذكرها لن يخلده إلا عملها وعلمها

حتى الرسل والأنبياء لم يذكر الله تفاصيل عن أبناء كثير منهم، مثل موسى ولوط وعيسى وأيوب ويونس وصالح وهود وغيرهم. ولعله لنا في نبينا محمد العبرة الأكبر حيث توفى الله في حياته أبناءه الذكور الثلاثة، وبالرغم من هذا فإن ذكر سيدنا محمد ظل إلى يومنا هذا. أما بالنسبة للنساء فالأمر واحد، فحتى لو أنجبت عشر ذكور فاسمها لن يحمله أحد لا في شهادات الميلاد ولا غيره! وذكرها لن يخلده إلا عملها وعلمها. ولنا في سيدتنا عائشة -رضي الله عنها- المثل حيث أنها لم ترزق بالذرية ولكنها خلدت بوفرة العلم والأحاديث التي روتها عن الرسول-صلى الله عليه وسلم.
 

قد يقول البعض "لكن الذرية هي استمرارية لي ولعائلتي وهي من أبواب الصدقة الجارية"، أقول نعم ولكن.. دعنا نقرأ الحديث المعروف سويا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.

بدأ الحديث بالصدقة الجارية، أي بعملك "أنت" في أبواب الصدقة الجارية المتعددة من بناء المساجد والمدارس، حفر آبار الماء، وقف الأراضي الزراعية، كفالة طلاب العلم وغيره من أبواب الصدقة الجارية الكثيرة والمتنوعة التي يمكن للإنسان أن ينفع بها الأمة وينتفع بأجرها بعد موته. ثم ذكر العلم النافع لأولئك الذين فتح الله عليهم أبواب العلم فنشروه وعلموه وكتبوا الكتب وغيره. وهذا أيضا يعتمد على جهد الشخص نفسه وليس لولده شيء في هذا. وأخيرا ذكر الرسول- صلى الله عليه وسلم – الولد الصالح، "سواءا ذكرا كان أم أنثى"!

لكن ترى لماذا كان هو آخر الخيارات؟ أعتقد لسببين:
أولا: لأنه خيار يعتمد على عمل وجهد شخص آخر، وقد لا نضمن بالرغم من إنجاب هذا الولد أن يكون صالحا أو لا، أو أن يبقى صالحا بعد موتنا ليدعوا لنا ويتصدق عنا، أو حتى أن يظل حيّا حتى موتنا !! ولنا في سيدنا نوح وابنه عبرة في هذا. فلماذا نستثمر في شيء متغير وغير مضمون مثل هذا؟ لعله كان الخيار الوحيد للبعض مثل جدتي وجدتك التي كانت حياتها تدور حول أولادها ولَم يكن لها صدقة جارية أو علم ينتفع به، فكان لها الذرية التي هي أنت من امتدادها ولعلها تطلب منك الآن أن تدعوا لها وتتصدق عن روحها.
 

ثانيا: هو أن عائد الاستثمار قد يكون أطول بكثير في حالة الصدقة الجارية والعلم النافع. فكم سنة سيظل ابنك وأولاده يذكرونك ويدعون لك؟ عشرون سنة، ثلاثون، ستون.. هذا في أحسن الأحوال. هي سنوات محدودة بالتأكيد مقارنة بأعمال قد تظل تذكرها الناس لك وتنتفع بها لمئات أو ربما لآلاف السنين.
 

أنا لا أدعوا الناس لعدم الإنجاب، بالعكس فالذرية الصالحة من أكبر وأجمل النعم على العبد، وكأم أقدر هذه النعمة وأحمد ربي عليها، ولكني أذكر نفسي أولا وأذكركم إلى اعتبار الذرية مشروع واحد من ثلاث كما بينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديثه، وليكن لكل منا أهداف قصيرة وطويلة الأمد تضيف إلى رصيدنا في الصدقة الجارية والعلم النافع دائما.
 

وأهمس في أذن الكثير ممن لم أو لن يتزوجوا أو ينجبوا بأن لا يجعلوا هذا محور حياتهم وسبب لتعاستهم وتقاعسهم عن العمل ظنا بأن الذرية هي وحدها سبب السعادة ودخول الجنة. فقد يكون الله وضعكم في هذه الظروف لأن دوركم في الحياة "صدقتكم الجارية وعلمكم النافع" يحتاج لأن تكونوا متفرغين بدون ذرية، فكلنا يعلم كم يحتاج الطفل من الرعاية والاهتمام الجسدي والنفسي في كل مرحلة عمرية، مما يستهلك طاقة الوالدان ويشغلهم عن أعمالهم الأخرى. وكما قال تعالى في سورة الأنفال "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم"، فالذرية فتنة إذا، لأنها تشغل الإنسان عن العمل الجاد للآخرة.
 

لن يغنينا وجود الأبناء في الآخرة شيئا. فليعمل كل منا إذا على "حمل اسمه بنفسه"، بعمله، بإنجازاته، وبعلمه النافع إن شاء الله.

ولعلها أدركت الأخت سماح بايزيد في مقالتها السابقة "لا أريد أن أكون أما بعد" أن إنجاب الذرية الآن سيعيق مشوارها في تحقيق أهدافها السامية والتي ستكون لها صدقة جارية وعلم ينتفع به بإذن الله. وأنا بالتأكيد أؤيدها حيث أن المسلمين في زمننا هذا يحتاجون أكثر إلى العاملين والعالمين أكثر بكثير من المنجبين!

لقد آن الأوان أن نغير نظرتنا السطحية لهذا الأمر وأن ندرك أن هدفنا في الحياة أكبر بكثير من موضوع إنجاب ولد "ذكر" ليحمل اسمك، وإنما خلقنا الله في هذه الدنيا للعمل وسيسألنا عن عملنا نحن فردا فردا وليس عن عمل أبنائنا أو آبائنا، ولن يغنينا وجود الأبناء في الآخرة شيئا. فليعمل كل منا إذا على "حمل اسمه بنفسه"، بعمله، بإنجازاته، وبعلمه النافع إن شاء الله.
 

أغمض عينيك وتخيل أنه بعد وفاتك قرر الناس أن يبنوا متحفا باسمك ليخلد إنجازاتك وأعمالك، ترى ما هي أقسام هذا المتحف وماذا سيتضمن من أعمال؟ أترككم مع هذا التمرين لعله يعينكم على تحديد أهدافكم وأعمالكم المستقبلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.