شعار قسم مدونات

لا أريد أن أكون أماً.. بعد

blogs - mother

داخلي- نهاري- غرفة فندق

ذات صباح في اسطنبول في غرفتنا الفندقية ذات الطابع العثماني القديم، لابتوبي على الطاولة أضع اللمسات الأخيرة على Proposal عرض مشروع جديد لفيلم إنساني توعوي قصير سأعرضه على شركة مهتمة فيه هناك، أتجهز على عجالة للاجتماع معهم بعد ساعة ونصف فأزمة شوارع اسطنبول لا يمكن توقعها وأحب دائماً أن أصل قبل الوقت بقليل.

يدق الباب، أكمل ارتداء حجابي سريعاً وأذهب لفتحه، موظفة الترتيب والنظافة، تبتسم وتتحدث مرحبةً بالتركية -يبدو أنها قد تذكرتني فنحن ننزل عادةً في نفس الفندق- أجيبها ب"Thank you" و "تشكر إيديريم" على ما تقول مع عدم فهمي لحديثها وأدعوها للدخول للترتيب فأنا مغادرة بعد دقائق، فأتفاجأ بها تضع يدها على بطني بقوة وتسألني بالتركية بلهفة: "بيبيك ؟ً!" أي "بيبي؟" – وبغض النظر عن أنني أمارس الرياضة بشكل شبه يومي منذ سنوات فليس هنالك ما يدعو للشك بصرياّ- إلا أنني تفاجأت وانصدمت بما فعلت، فلا تعدي على الخصوصية قولاً وفعلاً من شخص غريب أكثر من ذلك!

سنّ الزواج تغير اليوم فأغلب صديقاتي في عمري اليوم لم يخطبن أو يتزوجن بعد، وبالتالي سن الإنجاب تغير أيضاً.

أزحت يدها وأجبتها بحزم لا ابتسامة فيه : "بيبيك يوك" أي لا يوجد بيبي وأضفت بالإنجليزية "لأنني لا أريد بيبي الآن"، لتنهال علي بالكلام الذي لم أفهم حرفاً واحداً منه ولكنني أستطيع أن أترجمه بدقة من خبرة وتجارب سابقة لنفس الحوار الذي سمعته بلغات مختلفة حتى الآن:
"لا تقولي لا أريد- لا يجوز- كم عمرك- كم سنة مر على زواجكم- ما رأي زوجك وأهلك- هل أنتي مريضة- كفاية دلال- لماذا تزوجتي اصلاً إذا كنتي لا تريدين الإنجاب- ليس الآن إذاً متى… الخ الخ"
تجاهلت أسئلتها بExcuse me ومعذرة لطيفة وحملت حقيبتي وخرجت محاولةً استعادة هدوئي وتركيزي للاجتماع المهم بعد ماحصل.
 

بطاقة تعريفية:
اسمي سماح وعمري 27 عام ، أعمل كاتبة سيناريو ومخرجة، أعيش في واشنطن دي سي، متزوجة ومر على زواجنا أنا وشريكي محمد أجمل 4 سنوات وتسعة شهور من الحب والشراكة والعمل.
التهمة:
لست أماَ، ولا أريد أن أكون أماً بعد!
نجحت بكتم صوتي لما يقارب الخمس سنوات حتى الأن وبقدر ما حاولت أن أتجنب الحديث عن هذا الموضوع على العام لإيماني بخصوصيته الشديدة إلا أنني اليوم أتحدث وأرفع صوتي للحديث في موضوع لم يترك له المجتمع أي خصوصية.
ما أن ينتهي الشهر الأول بعد زواج أي عروسين حتى تنهال الأسئلة على العروس المسكينة من نمط "شو مخبيتيلنا أو شو محوشيتلنا؟" وهنا لدي تعليقين، الأول على استخدام الكلمات " التخبئة والتحويش" وأحتار أيهما أغرب، والثاني الضمير "لنا" وفيه إشارة إلى أن الطفل القادم سيكون لهم أو من أجلهم وهذه غريبة أخرى!

أما أنا فمنذ البداية كان جوابي واضحاً: "لا نفكر بموضوع الإنجاب بعد" "ليس الآن ولكن في خطتنا المستقبلية إن شاء الله" ، ولاحظت بأن وضوحي كان يزيد الغضب من حولي، كعبارات "ماذا يعني لا أريد؟ ماذا يعني لست جاهزة"، وهنا كانت تنصحني أمي الغالية -التي تتفهمني تماماً وتقف لجانبي- بأن أجيب الناس بهذه الجملة "إن شاء الله" وأختصر "وجع الرأس" ففي "إن شاء الله" بالمعنى العامي معنيين وهما المسايرة أولاً وأن الأمور ليست بيدي ثانياً، والحقيقة أنها بيدي ، فلم أسمع نصيحتها لأنني لا أحب المسايرة وأحب أن أكون واضحة.
 

لماذا ليس بعد؟
أعيش نمط حياة مجنون، طبيعة عملي الذي أعشق وأحب كمخرجة وصانعة أفلام صعب للغاية، الكثير من الانشغال والعمل الدائم. فمثلاً في تصوير المسلسل الأمريكي Inspiration ملهم العالم كنا نقضي في تصوير الموسم الواحد أسابيع من التصوير المتواصل منذ الصباح الباكر حتى قرابة منتصف الليل من دون أي استراحة ولا حتى ليوم واحد، عدا عن أشهر من التحضير سابقاً والمونتاج لاحقاً.

وهذا مشروع واحد من ضمن عشرات المشاريع التي نعمل عليها كل عام. بالإضافة للكثير من السفر فمثلاً هذا العام وحده قضيت أكثر من 120 يوماً متفرقاً على مدار العام مسافرة للعمل أو لحضور المؤتمرات. وأحياناً لزيارة الأهل الذين يقيمون في بلد آخر وأحتاج ل 14 ساعة طيران حتى أصل إليهم، وهذه بحد ذاتها عائق كبير في خطة إنجاب أي طفل فلا يوجد لدي أي عنصر مساعد من الأهل، ومحمد ليس شريك حياتي فقطـ بل نحن شركاء في العمل أيضاً فكل ماذكرته من ظروف عمل وسفر نخوضها سوياً.

وقد يقترح أحدهم الآن حلاً لم يخطر بالبال ويقول ببساطة أتركي العمل! وهنا أوضّح بأنه بفضل الله حاجتي للعمل ليست مادية -وذلك ليس عيباً في ضمن ظروف اقتصادية صعبة يعيشها الناس عموماً- وإنما "عملي رسالتي" التي أعيش من أجل إيصالها للعالم كله في مكان اختارني الله له وقلّدني فيه المسؤولية والعلم والخبرة، وفي مجال قل فيه المسلمون المحترفون.

فمن خلال عملي وصلت لبيوت وقلوب وعقول الكثيرين حول العالم وتحدثت في أعمالي وأفلامي عن الإسلام ورسوله وعن الهجرة والقضية الفلسطينية والقضية السورية وعن قضايا اللاجئين حول العالم وقضايانا كمسلمين وعرب في الغرب والإسلاموفوبيا واليتيم و المرأة وغيرها. ولا زال هناك الكثير من المشاريع لإنجازها. فمنذ بداية حياتي المهنية وضعت عملي أولوية قبل أي شيء آخر، وهذه أولوية نتفق عليها في حياتنا أنا وشريكي سوياً.
 

كل شيء تغيّر…
البعض يخبرني وأنا لازلت ذات ال27 عام بأنني تأخرت كثيراً وبأن قطار الإنجاب سيفوتني، وبغض النظر عن البُعْد الشديد لهذا الكلام عن الصحة علمياً، إلا أن سنّ الزواج تغير اليوم فأغلب صديقاتي في عمري اليوم لم يخطبن أو يتزوجن بعد، وبالتالي سن الإنجاب تغير أيضاً. وأعلم بأن جدتي ستوبخني حُبّاً لو سمعتني وكانت ستقول لي: "عندما كنت في سنك كان لدي 6 أطفال"، إلا أن كل شيء في هذا الزمان ياجدتي تغير.
 

لا تجلدوا أنوثتي… لكل أنثى الحق في الاختيار
أحترم خيار كل أنثى بأن تعمل أو أن تكون أماً أوتكون أماً عاملة، فأختي الأصغر سالي مثلاً تحب العائلة والأطفال كثيراً. فمنذ بداية زواجها أنجبت طفلين وجلست معهما في المنزل طوال فترة طفولتهما المبكرة ثم بدأت العمل. بينما أنا لست مغرمة بالأطفال وأفضّل العمل على العائلة في هذه المرحلة. هذا لا يجعل أختي أنثى أكثر مني، ولا يجعلني أحدنا أفضل أو أسوأ من الأخرى، مجرد اختلاف شخصيات واختلاف اختيارات.

ليس هناك "صح أوخطأ" أو قاعدة عامة بإمكانك أن تسقطها على الجميع، إنما هناك قرارت تتخذها كل أنثى بناءً على ظروفها النفسية والخارجية فتختار مايناسب حياتها هي وشريكها ولها الحق في ذلك بعيداً عن أحكام المجتمع وسوطه.
 

أصعب مهنة في العالم
عدم رغبتي الحالية بأن أصبح أُماً لا يعني استخفافي بالأمومة لا سمح الله أو التقليل من شأنها. بل على العكس وبالرغم من أنني لم أجربها بعد إلا أنني على يقين بأن "الأمومة" هي المهنة الأصعب في العالم على الإطلاق.

شاهدت أمي الحبيبة وكل ما قدمت من أجلي. أخواتي وصديقاتي الأمهات منهن: جارتي أوتلك التي صعدت في المصعد مرة بجانبي أو حتى التي سافرت معي على تلك الطائرة. كل "أم" مرت ولو مرة من جانبي، تعلمت منها ما هي الأمومة.

إليهن كلهن ولكل أم في العالم أنحني وأرفع لهن القبعة وأحييهن على أداء مهنة أصعب من مهنتي ومهن الكثيرين؛ مهنة التعب بلا حدود، مهنة المسؤولية والتضحية بلا حدود، ومهنة الحب والعطاء بلا حدود.
 

أحلامي كثيرة… أحدها أن أصبح يوماً ما "أُمّاً"
في حياتي يغلب عندي المنطق على العاطفة في كثير من الأحيان والأمور. وعندما أفكر بالأمومة منطقياً، مسؤولياتها وتعبها وعوائقها أجد بأن صعوباتها وتحدياتها غلبت محاسنها بكثير، فبميزان المنطق لا ترجح كفة الأمومة لدي. ولكن سبحان من زرعها غريزة عند الأنثى ورغبة فطرية بأن ترغب في أن تكون أماً يوماً ما لطفلة أو طفل يخرج من صُلبها تداعبه في حضنها وتُشبعه حباً ليشبعها حباً هو أيضاً.

لا أريد أن أكون أماً بعد، لكن يوماً ما وعندما يحين الوقت المناسب في حياتنا -وربما يكون ذلك بعد سنوات- عندها فقط أريد أن أكون أماً.
 

رفقاً بالعباد
في كل المرات التي سُئلت فيها عن موضوع الإنجاب بإلحاح مثل "شو صار معك" "مافي جديد؟!" "متى ناويين؟" ،أوعندما دعت لي الكثيرات بشفقة وتعاطف ذابح غير مطلوب بعد جوابي بـ "لست أُماً بعد" وقبل سماع بأنني "لا أريد الآن فقط لا أكثر" فقلن لي : "الله يرزقك قريباً ويجبر بخاطرك المكسور".

أو أولئك الذين لم يتركوا صورة لي ولمحمد سوياً يظهر فيها علينا السعادة والرضا إلا وعلّقوا تبرعاً (وأفهم أنه قد يكون أحياناً حباً منهم) ومن دون أي سياق مناسب "إن شاء الله بتصيروا ثلاثة قريباً" أو "كملكم الله بالذرية "، أو من تجرأت وقالت "الله يشفيكي ويرزقك" وافترضت مرضي وعدم قدرتي الصحية!

الحياة ليست وصفة جاهزة علينا جميعاً أن نتبع مقاديرها بالحذافير. إنما هي حالة من التنوع والاختلاف اللا منتهي.

في كل تلك المرات التي ذكرتها أعلاه تساءلت "ماذا لو كانت إحداهن بالفعل تريد أن تكون أماً وليس لديها القدرة الصحية لذلك ولا تريد أن تخبر الناس لخصوصية الأمر؟!" كم خنجر سيطعن قلبها المسكين في كل يوم وكم مرة سيذكّرها المجتمع بعجزها عن ذلك!

وبالرغم من أن صحتنا بخير وتأجيل الإنجاب هو قرارنا، إلا أنني تعبت من إلحاح الناس بالأسئلة، حُباً كان أم تطفلاً. تعبت من وضغي دائماً في خانة الإتهام وحاجتي للتبرير الدائمة حتى يسامحني المجتمع ويتقبلني. تعبت من أمنيات الناس لي بما لم أطلب وتذكيري بمناسبة أو غير مناسبة.

أذكر مرةَ تعليق إحداهن على صورتي وأنا أحمل بيدي فرحةً جائزة من مهرجان أفلام في كاليفورنيا بأن هذه الفرحة لا تساوي شيئاً مقارنةً بفرحتي عندما أحمل بيدي طفلي! وما وجه التشابه لا أدري… فرحمةً بالعباد!

ماكان يعتبر تعبيراً عن الحب في زمنٍ مضى أعتقد بأنه أصبح في يومنا هذا تدخلاً في الخصوصيات. والحياة ليست وصفة جاهزة علينا جميعاً أن نتبع مقاديرها بالحذافير. إنما هي حالة من التنوع والاختلاف اللا منتهي. فليعشها كل منا بوصفته الخاصة، واتركوا كل ذي سعيٍ في سعيه. وليَسعد كل منا في حياته وقرارته.
وأقولها مجدداً وبالرغم من كل أسواط المجتمع المرفوعة: "لاأريد أن أكون أُماً… بعد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.