شعار قسم مدونات

فلنُحرق بعض الجسور لمساحاتنا

blogs - ref

في طريقِ الرّحيل -والذي امتد على سنتين- بدا كلّ شيء سريعاً ومبهماً، بعد أن كنتُ رافضاً لفكرة اللجوء دونَ جِدال، لعدّة أسباب أبرزُها انعدامُ الهدف، حتّى حددتُه.
 

أنا شابٌ في العشرينيات، عملتُ لما يقاربُ سنواتٍ خمس ما بين مجالِ الصّحافة والنشاطِ الإنساني، غادرتُ سوريا تحت ضغطِ اعتقالٍ وملاحقة، وتركيا تحتَ ضغوطِ العمل والتعبِ اللامنطقيّ في سبيلِ لُقمة العيش، دون أن تُبقي الأيامُ مساحةً لي ولأحلامي. كان عليّ أن أحرقَ بعضَ الجُسور لأصل. وها أنا ذا في بدايةِ طريقي في ألمانيا، أجتهدُ وأحلُم وأطمح، محاولاً التّغلب على تعقيداتِ البيروقراطيةِ ومحدوديةِ الإمكاناتِ في الوقتِ الحاليّ.
 

"رفيق الشامي".. بدأت علاقتي برفيق الشامي ككاتبٍ، ومحرضٍ للوجع، وقدوة، منذ فترةٍ تربو على الستةِ أشهر، يومَ مررتُ بمكتبةٍ عامّة، ولم أجد إلا كتُبهُ تجثُم بشموخٍ عربيٍ دمشقي. ومذ ذاك، يتّفقُ الجميعُ على مُقارنتي به، بعد أن أبدأ حديثي عن هدفي وأحلامي مُباشرة، ما بين محفّزٍ ومُثبّط. من نوعية: "جميل، أتعرفُ رفيق الشامي؟ لقد حقّقَ المُستحيل وآمل أن تكونَ رمزاً مثلهُ أيضاً". أو "الصحافةُ هنا لا تسمِنُ ولا تُغني من جوع، والكتابةُ َكذلك، كونَك ستُنافس الألمان بعُقر دارهم، عليك أن تكون مُتمكناً كرفيق الشامي تماماً". "رفيق الشامي استطاعَ أن يترُكَ بصمةً واضحةً في المجتمعِ الألمانيّ".
 

حسناً، رفيق الشامي هو كاتبٌ مهجريٌ دمشقي، من أصولٍ آرامية، من مواليد 1946، تعلّم الفرنسيةَ والإنكليزيةَ قبلاً، بين دمشق ولبنان، درسَ الرّياضيات والفيزياء والكيمياء كي يعمل مُدرّساً، هاجرَ نحو ألمانيا عام 1971، ليُكمل دراسته في الكيمياء، ويُحصّلَ الدكتوراه، ويعملَ لسنوات ضمن اختصاصه. بدأ بعدها مسيرتَه الأدبيّة، والتي كانت حُلمه الذي ما فتئ يغذّي به ويدعمُه، حتى نشر روايتَه الأولى باللُغةِ الألمانية عام 1978 قبل أن يتفرّغ للعملِ الأدبيّ في عام 1982. مُنِحَ عدّة جوائز أدبيةً في ألمانيا وخارجها، وباتَ من أعظم وأشهرِ الكُتّاب في ألمانيا، وعضواً في أكاديميةِ بافاريا للفنونِ الجميلة منذ 2002، كما تُرجِمت أعمالُه لنحو 24 لغة.
 

رفيق الشامي أو "سهيل فاضل"، والذي بلغَ السبعين من عمره منذُ مدّة، نالَ ما تمناه من بلدِ المهجر في الوقتِ الذي ظلمته بلادُه بإغفالهِ تِبعاً لموقفهِ السّياسي. وفي كل مرةٍ أُقارَنُ به سلباً أم إيجاباً، أستسلمُ لفكرة من أكون مقارنةً برفيق الشامي، رفيقٌ المنفيّ منذُ أربعينَ سنة، والأقربُ إلى بلادنا منا. لأعودَ بعدها لحُلمي، حلمي الذي يشدّ دوماً من عزيمتي، حلمي سهلُ الوصفِ، صعبُ المنالِ، لأكون صحفياً وكاتباً، لأنافس أهل البلادِ في بلادهم.
 

سننتصر بكل رعبنا وحروبنا وانتفاضاتنا، بسجوننا ومُخابراتنا، بالعبق الدمشقيّ المُختزل في لهجتنا، بابتساماتنا وبريق عيوننا، سننتصر.

احرق بعض الجسور لتخلق مساحتك.. عليكَ أن تكونَ حذراً أيّ الجسرينِ تحرُق وأيّهما تعبر، أنا الشابّ الذي شهدَ تدميرَ بلاده، موتَ أصدقائه، انهيارِ سقف البلادِ على أهلِها، ضيقِ حضن الوطنِ عن أبنائه، برودةِ زنازينهِ ولهيبِ لسعاتِ سياطه، والشقاءَ بين البلاد هرباً ومروراً بقارةٍ كاملةٍ نحو المجهول، لن أسمحَ لحلمٍ آخر أن ينهار. لن أسمحَ لهشاشةٍ أُخرى أن تَخرِق المركب، وأنا الذي عَلمتُ دوماً قُدرتي على تولي المهامِ وإنجازها على أكملِ وجه، لن أسمحَ لترسباتِ الماضي بتعكيرِ رؤيتي ومستقبلي.
 

لطالما كانتْ المقارنةُ تحدّياً، وأنا قبلتُ التّحدي، رفيق الشامي لم يولد مُبدعاً، لم يدخل ألمانيا مشهوراً، كما لم يولد قرارُه بتركِ العمل والتفرغِ للكتابة بسهولة، ولم يحتمل مرارةَ العيشِ والجوعِ في سبيلِ لا شيء. كان مُحارباً، ليخلقَ لنفسه مساحة، ويوجد مكاناً لطفلٍ دمشقيّ، في مجتمعٍ غريبٍ وثقافةٍ غريبة. تحدّى خوفه، تحدّى غربته، تحدّى التردُد والشّتات؛ ليبدأ قصصه كيومياتِ طفلٍ صحى فجأةً ليجدَ نفسهُ بعيداً عن الوطن، والتي بالرغمِ من كونها نُشرت قبلَ أزيدِ من عشرين سنة، لا تزالُ مشابهةً لملامحِ الحاضرِ لحدّ أقربَ للتطابق. كان يصرخُ في كلّ لحظة، ومنذ بدايةِ يوميّاته "نحن أكثر من الحرب والبترول، لدينا ملامحنا وتفاصيل حياتنا أيضاً".
 

رفيق الشامي حاربَ، وسأحارب، قدِم هارباً وأضحى بطلاً، كلانا كذلكَ هاربَين، وكلانا أتينا بحلمٍ متشابه بشدّة، لنتأرجحَ ما بينَ ثقةٍ مُفرطة، ورعبٍ راجف. رفيق الشامي الذي ابتدأَ في نفسي، مع الطفلِ الذي جسّده في "يد ملأى بالنجوم" ولن ينتهي، رفيقُ دمشق، من أضحتْ كلماتُه وحضورُه يشكلانِ لي التحدّي أكثرَ من البلدِ ورهبتها.
 

لن تكفّ الناسُ عن تثبيطٍ ومقارنة، ولن أكفّ عن تعزيزِ ثقتي بنفسي وخلقِ التّحفيز من أيّ مُقارنة. وسأنتَصر، سأحققَ حلمي وأنتصرَ لنا، سننتصرُ بكلّ رُعبنا وحروبِنا وانتفاضاتِنا، بسجونِنا ومُخابراتِنا، بالعبقِ الدّمشقيّ المُختزلِ في لهجتِنا، بابتساماتِنا وبريقِ عُيونِنا، سننتصر..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.